يقتبس الفيلم ذاكرة جوسلين اللعبي (1943) زوجة الشاعر عبد اللطيف اللعبي (1942) التي وثّقتها في كتابها "رحيق الصبر" La Liqueur d'aloès، ووضعت فيه تجربتها في السبعينيات بعد اعتقال زوجها، مازجة سيرة الثنائي داخل وخارج المعتقل بسيرة المغرب في تلك المرحلة التي تعرف بـ "سنوات الرصاص".
يشكّل الأمر لدى لقطع استعادة شيء افتقده في تلك المرحلة، بحكم أنها تزامنت مع دراسته آنذاك السينما في بولونيا، ورغبته المشاركة، بأي شكل من الأشكال، في كتابة بعض من خباياها. وبعد قراءة "رحيق الصبر"، شكّل الكتاب، إلى جانب رغبته في صناعة فيلم، حافزاً للتواصل مع عبد اللطيف اللعبي وإعداد سيناريو العمل.
"نصف السماء" (مقتبس من المثل الصيني: المرأة تحمل نصف السماء)، والذي يعتبره الشاعر فيلماً عن "سنوات الرصاص" من خلال عيون النساء والتركيز على المعاناة التي عاشتها أسر المعتقلين والمعتقلات، يشكل إضافة جديدة للسينما المغربية وللأفلام التي تناولت هذه المرحلة، ولو أن بعضها ركّز بالخصوص على جانب التعذيب والوضع السياسي والحقوقي القاتم حينها.
اختار الفيلم ثيمة حرية التعبير، وهو ما أعطاه خصوصية بحكم أن العديد من قضاياه حاضرة اليوم في العديد من التحوّلات التي يعيشها العالم. ينطلق العمل من لحظة اعتقال صاحب "عهد البربرية" في 27 كانون الثاني/ يناير 1972 وصولاً إلى إطلاق سراحه في 19 تمّوز/ يوليو 1980.
في هذه المرحلة الفاصلة، يلامس الفيلم من خلال جوسلين (الدور الذي أدته الممثلة صونيا عكاشة، فيما لعب الممثل أنس الباز دور عبد اللطيف اللعبي)، معركة المرأة ونضالها المستميت من أجل الكشف عن مصير المعتقلين والمعتقلات، وهي المعركة التي شارك فيها حتى الأبناء.
ركّز المخرج في كثير من مشاهد الفيلم على التصوير الداخلي، وحصر فضاءاته ليقترب من حميمية الشخصيات ومن دواخلها، ويسلط الضوء على تفاصيل الألم وجرح المرأة وهي تناضل من أجل الكشف عن مصير زوجها. حافظت مشاهد الزيارات والمحاكمة واللقاءات مع المسؤولين على أسلوب لقطع في ترسيخ سينما أقرب من المجتمع ومفارقاته.
الجانب المهم في الاقتراب أكثر من نضالات النساء للكشف عن المعتقلين، هو قدرة هذه اللحظات التاريخية على صياغة وعي سياسي لم يكن حاضراً حينها عند العديد من العائلات والزوجات والأمهات، اللواتي تحوّل نضالهنّ إلى حركة نسائية قوية، خاضت إضرابات عن الطعام وحركات احتجاجية للكشف عن مصير السجناء.
يمثّل "نصف السماء" نموذجاً لفيلم يتفاعل مع قضايا مجتمعية من خلال رؤى فنية متعددة. فلم يركز الشريط فقط على سيرة الزوجين، بل استوعب سيراً أخرى لمعتقلين سياسيين وأسرهم، إذ مثلت قدس اللعبي دور إيفلين السرفاتي زوجة المناضل اليساري ابراهام السرفاتي الذي اعتقل في اليوم نفسه مع الشاعر.
يَعتبر لقطع، مخرج "حب في الدار البيضاء" و"الباب المسدود" و"وجهاً لوجه"، أن فيلمه السابع "نصف السماء" يشكل لحظة وفاء لتجربة سياسية لم تسمح له ظروفه الدراسية المشاركة فيها، فقد كان يدرس الإخراج السينمائي في تلك الفترة، وحصل عام 1975 على دبلوم الدراسات العليا من "المدرسة الوطنية للسينما والتلفزيون والمسرح" في مدينة لودز في بولونيا، لكنه يرى فيها مع ذلك إلهاماً خاصاً لراهننا اليوم بحكم أنها تقع ضمن أفق المعركة من أجل حرية التعبير، التي تصبح المرأة مرادفاً لها، بل إنها هي البوّابة التي يسعى من خلالها الرجل إلى الانعتاق والتحرّر.
تحكم الفيلم رؤية السيناريو الأساس الذي كان عملاً تخييلياً إبداعياً أوتوبيوغرافياً لجوسلين، لكنه ما لبث أن تحوّل لمسودة سيناريو كتبه كل من لقطع واللعبي؛ ما يجعل من "الوقائع" و"الصدق التاريخي" أمرين جانبيين عند الحديث عن الفيلم؛ لأنهما ليسا الأساس والجوهري الذي انبثقت منه فكرة العمل. فثمة تفاصيل في هذه المرحلة السوداء من تاريخ المغرب، لا يمكنها إلا أن تظل محل تناقض نظراً إلى اختلاف الكتابات والوقائع والسرود التي تناولتها بتعدّد الأقلام ومرجعياتها الأيديولوجية، مثل استشهاد المناضلة سعيدة المنبهي، إذ لا ننسى أن هذه المرحلة من تاريخ المغرب، عرفت وعياً سياسياً حاداً وغنى لفصائل اليسار الراديكالي.
عبد اللطيف اللعبي، الذي تغيّرت صورته وهو يرى بسمة الأطفال تسرق عنوة في انتفاضة 1965، كان قد اختار مطلع 1966 لتأسيس تجربة مجلة "أنفاس"، ثم ساهم في تأسيس تجربة "إلى الأمام" اليسارية الرائدة في 1970. بعدها، سيتحول الرقم 18611، رقم اعتقاله، إلى عنوان تجربة مريرة تذكّر المغاربة بسنوات القهر.