خلال الأسبوع الماضي، تعرّضت الفنانة التشكيلية التونسية دلندة اللواتي إلى اعتداء، بعد أن رسمت غرافيتي على حائط مصنع "سياب" (صناعات كيمياوية) في مدينة صفاقس. لم يكن المعتدون من قوّات الأمن، بل موظّفين في المصنع قاموا باحتجازها، وافتكاك معدّاتها، وحذف الصور من هاتفها.
ما حدث لـ اللواتي يُذكّر بإيقاف رسّامَي الغرافيتي أسامة بوعجيلة وشاهين بالريش، في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، حيث وجّهت لهما تهم "كتابات على الجدار دون إذن"، و"عدم احترام قانون الطوارئ" و"نشر الإشاعات التي تحرض على الإخلال بالنظام العام". من 2012 إلى 2016، تغيّر المنفّذون، أما النتيجة فواحدة: التضييق على الفن في الفضاء العمومي.
كون السلطة التنفيذية لم تكن طرفاً مباشراً في الاعتداء على اللواتي، لا ينفي مسؤوليتها، فقد ألزمت الفنانة بعدم الرسم في محيط المصنع، ولم يجر بعد تتبّع المعتدين عليها. لكن الحادث يشير إلى أكثر من ذلك، وهو الدفع بمن يقوم بالاعتداء على الفنانين كون هذه الرسومات تدعو لإغلاق المصنع وبالتالي تهدّد مصدر رزقهم.
تقول اللواتي في حديث إلى "العربي الجديد": "يدل هذا الاعتداء على أن العمل الذي أنجزته قد أزعج كثيراً المصرّين على استمرار المصنع". للإشارة، تعيش صفاقس منذ سنوات على وقع حراك مدني يطالب بغلق "مصنع سياب" لحجم أضراره البيئية حيث أطلق عليه "مصنع الموت"، وهي الفكرة التي حاولت اللاتي تنفيذها فنياً. تذكر اللواتي أنه "في 2010، أقرّت الحكومة بضرورة غلق المصنع، وحين جاءت الثورة جرى الالتفاف على هذا القرار لمصالح مادية وشخصية".
تشتغل اللواتي على بحث جامعي يتعلّق بفن الشارع، ولعل هذا المنطلق النظري يجعلها تقر بأن ما حدث يعتبر بمعنى ما أمراً عادياً، فالغرافيتي فن استفزاز. لكن الحادثة تشير إلى هشاشة وضع الفنانين في الشارع، تقول: "ثمة مستويات من الوعي بقضية فن الشارع، وعموماً ينبغي الاعتراف أن هناك ضغطاً مضاعفاً على الفنان في الفضاء العام، فإضافة إلى التضييق الرسمي، هناك سوء تقدير وسوء فهم وهو أحد انعكاسات قلة انتشار الثقافة الفنية، ما يبيح أكثر التضييق على الفنانين" مؤكدة أن التفاف المواطنين والمجتمع المدني من أهم سبل حماية الفنانين.
عاشت تونس منذ اندلاع الثورة في أواخر 2010 طفرة في فن الشارع، خصوصاً الغرافيتي، فتحوّلت حيطان شوارع مدنها إلى لوحات وشعارات. لكن بمرور السنوات، يبدو أن حالة من الخمود قد ضربت تلك الحالة، وهو ما يجعل البعض يرى فيها مجرّد تحرّكات عشوائية استفادت من فسحة الحريات، ولكنها لم تضمن شروط الاستمرارية في مرحلة برود الطفرة الثورية.
من 2011 إلى 2013، ونظراً إلى توسّع الظاهرة، عرفت تونس مجموعة من التجارب الجماعية في فن الغرافيتي أهمها مجموعات "أهل الكهف" و"مولوتوف" و"زواولة". الفنان التشكيلي إلياس الماجري، أحد مؤسسي مجموعة "أهل الكهف"، يشرح هذا المسار: "في 2011، تحرّر الجميع ما أنتج رغبة في ممارسة الحرية وكان الغرافيتي أحد أشكالها. هذا الدافع النفسي الذي أنتج طاقة إيجابية تمتّع به الفنانون ضمن مناخ عام من المعنويات المرتفعة، واستفادت التجربة من فضاءات موسّعة، حتى أن البعض كان يدعونا لإنجاز غرافيتي في أحيائهم ومدنهم".
يشير الماجري إلى أن "عدم وجود أي نوع من الدعم جعل الطاقة تخمد مع الوقت، فالتمويل الذاتي ذو نفس قصير، إضافة إلى أن أن جزءاً كبيراً من الطاقة كانت تضيع في عملية البحث عن موارد".
لا يفسّر الماجري خمود التجارب بتضييق السلطة، لأن فن الشارع بحسبه هو فن مقاوم للسلطة بالضرورة ومندرج في الرفض، لكنه من زاوية أخرى يقدّم قراءة في تعامل السلطة مع هذا الفن، إذ يقول "مارست السلطة قمعاً ناعماً تجاه هذه الظاهرة، بداية بعدم الاعتراف وصولاً إلى خنق الإمكانيات والمسح المتكرر للرسومات".
يتذكّر الماجري بوادر ظهور تجربة "أهل الكهف"، يقول: "أعتبر أن التجربة بدأت في شكل نقاشات عشناها كمجموعة من الفنانين، أنا وزياد الحضري ومحمد علي اللطيف في بداية 2010، وقد نقلتنا الثورة إلى العمل التطبيقي لهذا النقاش، خصوصاً في اعتصام القصبة، وحين أردنا نشر أعمالنا على الإنترنت اخترنا اسم "أهل الكهف"، ثم انضمّ كثيرون إلى هذه النواة، ولكننا عدنا ثلاثة في 2013 ثم تفرّقت المجموعة".
يرى الماجري، من موقع اليوم أن التجربة كانت حركة ضمن الراهن. يقول "كنّا جزءاً من الحراك ولم نأخذ مسافة تفكير، رغم أن مشروعنا كان يهدف بالأساس إلى التفكير حول الفضاء العام، وإلى اليوم هناك أسئلة لا بد أن تظل تطرح، أهمها: هل نحن بحاجة إلى فن الشارع؟ وهل هو فقط كتابات ورسومات في الشارع أم ملكة اجتماعية وقدرة، وإلى أي حد يمكن إنجاز ما تغشاه العين؟".
لعل سؤالاً آخر يمكن طرحه، وهو هل نحن في فضاء قادر على احتضان مثل هذه الحركات الفنية؟ عموماً، حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فالغرافيتي يتضمّن فكرة افتكاك الفرصة، والتصدّي لإقصاء المواطن من الشأن العام.
اقرأ أيضاً: إياد صبّاح: منحوتات الحصار