لا يزال عمل مثل "الكائن والحدث" (1982) يحتفظ ببريقه إلى اليوم كواحد من أكثر الأعمال الفلسفية الحديثة أصالة من حيث انغراسها في تاريخ الفلسفة، بنفس درجة تقديمها إجابات على قضايا الإنسان المعاصر.
صاحب هذا العمل؛ المفكر الفرنسي ألان باديو (1937)، ظل وفياً في مجمل مسيرته إلى منهجيته هذه في التقريب بين الأفكار والانغماس في الراهن. لعل عمله الصادر مؤخراً "الشر يأتي مما هو أبعد"، يؤكد ذلك.
الأفكار التي أوردها باديو في كتابه الجديد، وجدت سبيلها إلى المتلقي قبل صدورها بين دفتي كتاب من خلال مجموعة من المحاضرات واللقاءات الصحافية. كانت أحداث 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي التي هزت باريس، قد بلورت عدداً من الأفكار في ذهن باديو، حيث يضع أمامه مشهد سنة 2015، التي تبدأ بعملية 7 كانون الثاني/ يناير، وتنتهي بعمليات 13 تشرين الثاني/ نوفمبر.
يلاحظ أن الأولى يظهر فيها أن اختيار الضحايا كان مدروساً، بينما أصبح القتل في الثانية عشوائياً، من هنا يدعو المفكر الفرنسي إلى ضرورة تطوير التفكير في المسألة بعد انتقال القتل إلى مستوى جماهيري.
حين يتصدّى للإجابة عن السؤال المتعلق بالدوافع التي تحرّك الجهاديين، يؤكد صاحب "ميتافيزيقا السعادة الحقيقية" أن الأسباب المقدّمة -اجتماعية كانت أو دينية كما هو متداول- لا توصل إلى أي نتيجة يمكن بناء حلول ملموسة من خلالها.
يقول باديو إن كل تفسير ديني لما يحدث سوف يوقعنا في مقولة "صراع الحضارات"، وهذا الأمر بالنسبة له "ليس سوى تفكير ردود أفعال" انجرّ عنه انتشار نموذج "المثقف الإسلاموفوبي" في الفترة الأخيرة، ليبدأ في الدعوة إلى تقديم نظرة أشمل.
بداية، ينأى المؤلف عن التفسيرات من داخل الإسلام، فبالنسبة إليه ما يحصل ليس سوى أعراض مرحلة تعيشها البشرية ضمن مشروع الرأسمالية المعلومة.
في لقاء له بجريدة "ليبراسيون"، صرّح باديو: "معضلتنا تأتي مما هو أبعد مما نراه، إنها نتيجة نظام عام لا يستطيع تحقيق وعوده"، مؤكداً أنه بات من الضروري اختراع بدائل إيديولوجية لشباب العالم.
يرى المفكر الفرنسي أن تراجع اليسار يمثل أحد أسباب تصاعد التطرّف الإسلامي وبلوغه مرحلة تهديد الغرب. يقدّم باديو مجموعة مركّبة من الأسباب التي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه، مثل: تراجع قوة الدولة أمام الأوليغارشيات، وهذا في كل دول العالم، إضافة إلى عدم تصفية اللاوعي الاستعماري وبناء علاقات جديدة بين الدول، وتواصل تطوّر الرأسمالية المعولمة وبحثها عن التمدّد المستمر دون أن يواجهها أي خيار بديل.
هكذا، وفق باديو، لم تعد توجد خيارات، فإما الانسياق أو أخذ الخيار الخاطئ. وما لم يتحقق هذا البديل، فإنه يعتبر أن عمليات شبيهة لعمليات باريس ستظل تحدث في العالم.
اقرأ أيضاً: شارلي إيبدو.. قصة استفزاز معلن