بعد عشرة أعوام على رحيله، يصدر عن "مركز تراث" في القاهرة كتاب "لمحات عن تجاربي الفكرية" للعلامة السوري الراحل صلاح الدين المنجد (1920 - 2010)، وهو في أصله محاضرة ألقاها في بيروت عام 1962.
حمل المنجد لقب "سندباد المخطوطات العربية"، فقد أصدر خلال حياته مئة وخمسين كتاباً، بينها الكثير من المخطوطات المحقّقة، ورغم أنه حامل للدكتوراه في القانون الدولي من جامعة السوربون الفرنسية، وأعد رسالته عن "النظم الدبلومساية في الإسلام"، لكن ميلة الأصيل والعميق إلى الأدب والثقافة، قاده إلى المخطوطات، إلى أن اختير مديراً لـ"معهد المخطوطات العربية" التابع لجامعة الدول العربية، فأعاد مأسسته وتنظيمه.
هيأته فرصة إدارة المعهد للعمل على جمع أكبر عدد منها، فبدأ في رحلات حول العالم يجوب خلالها المكتبات والجامعات، ويُنقل عنه أنه لم يترك مكتبة فيها مخطوطات عربية إلا وزارها وقام بتصوير أفضلها، ومن هنا جاء لقبه "سندباد المخطوطات".
كتب المنجد في حقول مختلفة، ساعده في ذلك اطلاعه الواسع في حقول شتى، فنشر مؤلفات في التاريخ واللغة والآثار وعلوم الخط والمعاجم، والسياسات العربية أيضاً، وألقى العديد من المحاضرات منها ما هو أكاديمي ومنها ما يحمل طابع السيرة والتجربة الشخصية.
وقد ساهم في غزارة محاضراته دعوته المستمرة أستاذاً ومحاضراً في جامعات من قبيل الأميركية في بيروت، وفرانكفورت في ألمانيا، و"جمعية المعارف العثمانية" بحيدر أباد، و"المعهد الألماني للآثار" في برلين، و"كلية المعقول والمنقول" بجامعة طهران، و"جامعة الملك سعود" في الرياض وغيرها.
يروي المنجد في إحدى محاضراته حادثة جعلته شغوفاً بالأدب والتراث والتاريخ، وتتعلق بمحاضرة ألقاها رئيس "المعهد العلمي العربي" محمد كردعلي في دمشق عام 1940، ويقول "كنت يومئذٍ أتدفق بالنشاط والحماسة، ويخالطني الغرور. فأردت أن أنتقده في أمور. وكان من الجرأة البالغة أن ينتقده إنسان".
ويتابع: "كتبت مقالة في نقد المحاضرة، وأرسلتها إلى الأستاذ ياسر الزيات، وكان لا يحب الأستاذ كردعلي وبينهما نفور. فسارع إلى نشر مقالتي. ثم جاءني الأستاذ عبد النبي قلعي، وكان رئيس ديوان وزارة المعارف، وصديقًا لوالدي، وقال: كنت أمس في زيارة للأستاذ كردعلي. فسألني عنك، وهو يرغب أن يراك، فلعلك تذهب لزيارته".
وحين حدثت الزيارة قال له كردعلي: "قرأت مقالك. واستفدت منه... أقول لك كما قال لي شيخنا الشيخ طاهر الجزائري: التراث العربي المخطوط مهمل فاعتنوا به وأحيوه فسألته: وماذا علي أن أقرأ لفعل ذلك؟ فقال عليك بالمكتبة الظاهرية يوجد فيها سبعة آلاف مخطوط. اقرأها وستصبح عالم دمشق".
وبالفعل أصبح هذا هو اهتمام المنجد وبدأ بنشر سلسلة آثارية صدر منها "دمشق: أسوارها أبراجها وأبوابها"، و"بيمارستان نور الدين بدمشق"، و"قصر أسعد باشا العظم بدمشق"، ثم انهمك في دراسة تحقيق المخطوطات وأصبح من أبرز محققيها في الثقافة العربية.
من أبرز إصداراته: "أعمدة النكبة: بحث علمي في أسباب هزيمة حزيران"، و"المجتمع الإسلامي في ظل العدالة"، و"المخطوطات العربية في فلسطين"، و"دراسات في تاريخ الخط العربي"، و"المنتقى من دراسات المستشرقين".