طه محمد علي
الشاعر الذي فاق جميع جدّاتنا حناناً
وفاقهن حزناً وجمالاً،
ما زال رغم موته من سنتين
يستيقظ في منطقةٍ لا أستطيع تحديدها بأعماقي
أسمعه في بعض الصباحات
يضحك مثل رضيعٍ غَرِدٍ في مهده
أو يتصبَّر ويُتمتِم وتطفر دموعه
كمن ثكل الدنيا بأسرها.
هذا الصباح سمعته بوضوح وعرفت أنه هو
حين ناداني باسمي وأسرّ لي الاعتراف التالي:
"يا نجوان لا تستهن بي،
أنا أمكر من أن أذهب عن هذه الدنيا
الذي حملوه ودفنوه في مقبرة الناصرة الجديدة ليس أنا
-يا صاحبي وكاتم أسراري-
أنا اختبأت في تلك المنطقة السرّية في أعماق أصدقائي
كما اختبأتُ في حناجر العصافير الباحثة عن رزقها
واختبأت في الصبّير – لم يعد يجرحني شوكه
قرّرتُ أن أواصل حياتي إلى ما لا نهاية
في القلوب الأكثر صفاءً من مياه "نبع القسطل"
(أنا أيضاً كنت أُفكّر بالخلود)
كما أني - وهذا بيننا - سأختبئ في أحلام أكثر النساء فتنةً
وسأعرف كيف أُشاغلهن
بما راكمته من خبرات ومعارف بأسرار القلوب
والأمر الأخير إياك ثم إياك أن تعرف عنه أم نزار!
إذا أردتَ أن تلقاني، ابحث عنّي على باب روضة أطفال في مخيّم
أو مدرسة ابتدائية في استوكهولم
كما ستكون لي ظهورات في دورِ حضانةٍ بأذربيجان وطشقند وأكواخ صفيح في ساحل العاج وسأتهجّى لغاتٍ لا حصر لها
الموتُ حرّرني من قيود سجانينا الصغار
مثلما الشعر يحرّر أصحابه من الزمن- سجاننا الكبير".
ثم راح طه يغنّي بإيقاع خفيض
وأخذ صوته يتلاشى
بينما كنتُ أمسح عن خديّ دموعَ جدّتي.
اقرأ أيضاً: مربط العنزة