"نستنّاو.. ف..الحيط": في انتظار غودو الجزائري

04 مارس 2018
(من العرض، تصوير: سفيان بن فرشيش)
+ الخط -

أنتج المسرح الجزائري بشقّيه الحكومي والأهلي، خلال السّنوات العشر الأخيرة، مئات الأعمال المتراوحة بين الجدّية والارتجال والاحتكام لشروط الفنّ تارة ولشروط التجارة في أخرى، بعضها رسخ في الأذهان وكثير منها كان مصيره العبور مع الرّيح.

في خضم هذه الدّوامة، أُنتجت مسرحياتٌ كانت خصوصيّتها أنّها عبّرت بوعي وجمالية عن طبيعة اللحظة الجزائرية في تحوّلاتها ومخاضها وأحلامها وأوهامها وتمزّقاتها ومخاوفها وعبثها وجدّها وهزلها ووضوحها وغموضها. غير أنّ هذه الأعمال المسرحية مرّت في الغالب مسكوتاً عنها لم يلتفت لها النّقد والإعلام والجوائز في المهرجانات، فكأنّ هناك حالةً من التواطؤ الجماعي على تهميشها والتّعتيم عليها.

من العروض التي ينتابك إحساس بأن المرحلة الجزائرية القائمة عَطَستها لتعبّر عنها، مسرحية "نستنّاو.. ف..الحيط" للمخرج حليم زدّام، حيث تمّ الجمع بين مقاطع من نصّين يفصل بينهما 25 قرناً هما "أنتيغون" للشاعر الإغريقي سوفكليس (496 ـ 405 ق. م)، و"في انتظار غودو" للكاتب الأيرلندي صموائيل بيكيت (1906 ـ 1989)، لرصد حالة الانتظار، التي باتت تهيمن على الواقع الجزائري، حيث الجميع رافض لهذا الواقع ومنتظر غداً مختلفاً عنه على أمل التّغيير.

يدفع وعيُ النّص والموسيقى والرّؤية الإخراجية والسّينوغرافية بهذا المعطى، ونقلُه على الخشبة بشروط المسرح بعيداً عن الصّراخ والانتفاخ والتقريرية والشّعاراتية، إلى الاعتقاد بأنّ حالة الانتظار الجزائرية هذه، والتي بتنا نلمسها حتّى في عيون الأطفال والقطط والعصافير، هي من تولّى الكتابة والموسيقى والسّينوغرافيا والإخراج والتّمثيل، وما العناصر البشرية في العرض إلا وسائط منفّذة فيه.

يُعدّ العرض الذي يُقدّم في المسارح الجزائرية، منذ أواخر السنة الماضية، ثمرةً لورشة تكوينية قام بها الممثّل والمخرج والنّاشط المسرحي حليم زدّام على مدار ثمانية أشهر، برعاية "مسرح العلمة"، حيث بدأ 12 شاباً التدرّب على التّمثيل والتعبير الجسماني والإحساس باللغة من الصفر، وفي هذه الفترة الوجيزة التقوا بعدد من المدارس المسرحية المعروفة، والتي التقت في هذا العرض بمنطق الحوار لا بمنطق الصّراع، حتى صار من العبث -والعبثُ حساسيةٌ مسرحية- أن يحاول المتلقّي أو النّاقد تصنيفه ضمن حساسية مسرحية معيّنة.

إنّ هذا التّماهي للمدارس والحساسيات المسرحية في ما بينها، في "نستنّاو.. ف.. الحيط" هو رسالة في حدّ ذاته. مفادها أنّ الحالات الجزائرية على اختلاف مستوياتها الشّعبية والحكومية باتت حالةً واحدةً تُسمّى الانتظار، غير أنّ لكلّ طرف غودو الخاصّ به، يخرج لينتظره عند "الحيط"/ الحائط واقعياً كان أم افتراضياً، ثمّ يعود خائباً في نهاية النّهار، ولا عزاء له سوى أنّ هناك فرصةً للانتظار في الغد. فالغد الجزائري وعاء لممارسة الانتظار لا لممارسة الحياة.

تتداخل الأصوات والأزمنة والأزياء والأضواء والحركات والوجوه واللغات، على مدار العرض، بين وضوح وغموض ويأس وأمل وغضب ورضا وسواد وبياض، لتعزّز حالة الشّراكة في ممارسة فعل الانتظار، وفعل الغناء الذي بات حالة ثورية: "نستنّاو من وراء الحيط/ النهار يطلع/ الشّمس تسطع/ الحب/ الموت/ نستنّاو الحيط يطيح".

لقد تحوّلت المرأة/ أنتيغون داخل حالة الانتظار هذه، إلى واحدة من دواعي الأمل والتّعويل عليها في الخروج من حالة الانحباس. فهي تضع الجميع، بمن فيهم الملك والعرّاف بصفتهما سلطتين فوقيتين، أمام أنفسهم وأدوارهم في الوصول إلى حالة التعفّن، التي تمثّلها جثّة شقيقها تحت أشعّة الشمس.

بين مقاطع من مسرحية "أنتيغون" حيث الرّغبة الملكية الشّرسة في احتكار الحكم، وحالات مقتبسة من نصّ "في انتظار غودو" حيث الرّغبة الجموح في الانعتاق من حالة الانتظار المزمنة، تطلع مقاطعُ من محمود درويش لتعزيز أشواق الحرية لدى الممثل والمتلقي، اللذين ينسيان حالة الانتقال من زمن إلى زمن آخر لولا اللّباس والموسيقى وتحوّلات الحائط.

لم يكن الحائط مجرّد كلمة تؤثّث العنوان، بل كان شخصية بارزة في العرض. منه منطلق الأحداث/ الدّلالات وإليه منتهاها. إذ لا يوجد في المخيال الجزائري عنصر يمكنه أن يوحي بحالات الانتظار والعطالة والبطالة مثل الحائط. ومنه تسمية الجزائريّين للفرد البطّال بـ"الحيطيست" وقولهم عن انسداد الأفق "دخلنا في حيط". غير أن الرّؤية الإخراجية راهنت على التفاؤل، فجعلت الاصطدام بالحائط فرصة للانتباه/ العلاج بالصّدمة لا مدخلاً للغيبوبة والغياب.

أدّى الإحساس بالمسؤولية لدى الأفراد/ الممثّلين إلى أن يعبّروا عن هواجسهم ومواقفهم بالكتابة على الحائط واقعياً وافتراضياً. وقدّمت الرّؤية الإخراجية هذا المقام على أنه ثورة مؤجّلة لدى الشّعوب الخائفة من الانزلاقات في حالة ممارستها للثّورة في حينها، وما على "الملك والعرّاف" إلا أن يفهما الرّسالة، قبل أن تذهب المدينة/ طيبة، في مهبّ الدّمار الذي يثمره عدم فهمهما/ تفهّمهما لطبيعة هذا الوضع.

يقول المخرج حليم زدّام في حديث إلى "العربي الجديد" إن "وظيفة المسرح خلقُ حالة من التأمّل في الذّات والواقع المحيط بها"، ويضيف أن "هذا العرض هو ثمرة التأمّل وقد سعى إلى أن يُثمر التّأمّلَ في الوقت نفسه، ذلك أن اللحظة الجزائرية اليوم بحاجة ماسّة إلى أن نتأمّلها جميعاً، لأنها مفتوحة على كلّ الاحتمالات، بما فيها احتمال الخراب".

يوضّح قائلاً: "إنّها تمارس معنا فعل التّنبيه، ومن الحرص على أنفسنا ومستقبلنا ومستقبل أطفالنا ومستقبل هذا الوطن الذي نتغنّى به في الكلمات أن ننتبه". يختم: "إنّ عرض "نستنّاو.. ف.. الحيط" فعلُ تنبيهٍ بلغة المسرح".


علامة مقتبسة 
لا يكاد يتوقف الافتتان العربي بغودو. في 2015، قدّم "مسرح إسطمبولي" في لبنان مسرحية "في انتظار غودو" في تعريب لنص صامويل بيكيت، فيما قدّم "مسرح لارتستو" في تونس النص نفسه مقتبساً بالعامية التونسية بعنوان "الموعد" عُرض بين 2014 إلى 2016، وها هو المخرج الجزائري حليم زدّام (الصورة) يستدعيه مجدّداً. هل عاد غودو ليصبح علامة ترمز إلى الواقع العربي بعد المآزق التي دخلتها آفاق التغيير في 2011؟