في موازاة هدوء الجبهة مع الحركات الفلسطينية، فتح وحماس، على ضوء حرب غزة الأخيرة وهامشية السلطة الفلسطينية لانعدام الوحدة وتجميد المفاوضات، عززت الحكومة الإسرائيلية، في السنوات الأخيرة، من قمعها للفلسطينيين في الداخل. وأبرز تجليات هذا القمع هي سياسية من ناحية واقتصادية اجتماعية من ناحية أخرى، وإن كانت كلها تتم عن طريق تكريس القانون لقمع المواطنين الفلسطينيين. يقوم القسم الأول من هذه المقالة باستعراض الأمثلة الأخيرة من هذه الملاحقة، في حين يناقش القسم الثاني مدى جاهزية الفلسطينيين وقياداتهم في الداخل لمواجهتها.
قمع "الراديكاليين"
كما استمرت الحكومة الإسرائيلية، على صعيد آخر، في ملاحقة التجمع الوطني الديمقراطي. وتجلى ذلك في عدة مناسبات. فقد أُبعدت حنين زعبي من الكنيست بعد مشاركتها في قافلة خرق الحصار البحري على غزة، ثم أبعد نواب التجمع الثلاثة من البرلمان بعد لقائهم بعائلات الشهداء الفلسطينيين في القدس، الذين احتجزت إسرائيل جثامينهم. كما تم التحقيق مع المئات من مؤيدي التجمع، واعتقال العشرات من نشطائه وقيادييه على ذمة التحقيق بشبهة مخالفة قوانين تمويل الأحزاب. وأخيراً تمت إزالة حصانة النائب باسل غطاس واعتقاله بشبهة تهريب هواتف خليوية إلى السجن لصالح أسرى الحركة الوطنية من فلسطينيي 48 و67.
ويتجلى الطابع السياسي والأيديولوجي لهذه الملاحقات بسبب نوعية الخطاب السياسي الذي تحاول السلطات إسكاته، نظراً لخروجه عن حدود الشرعية الصهيونية للنظام السياسي والقانوني. إذ يتم تحويل النزاع السياسي حول طبيعة الدولة وسياساتها التمييزية واستعمارها لشعب آخر، إلى نزاع قانوني يقف فيه الممثلون السياسيون الفلسطينيون موقف المتهم، لا موقف الخصم السياسي الشرعي. كما تتجلى في مرافقتها للتحريض الإعلامي الشديد ضد نواب التجمع وضد الإسلاميين. وإضافة إلى ذلك، فإنها في القضايا التقنية أو الجنائية في الظاهر تخصّ التجمع ونوابه بمعاملة خاصة لا توازيها معاملة الشرطة والقضاء لأحزاب صهيونية أو ممثلي جمهور يهود، عبر تدخلات الجهاز السياسي في قرارات الشرطة والنيابة. كما يظهر التسييس في خرق القوانين الإجرائية للمتهم في حالة غطاس، وافتراض التهمة حتى قبل الاتهام الرسمي.
هدم بيوت الفقراء
أما أم الحيران فهي أسوة بعدد كبير من التجمعات السكنية في الجليل والنقب غير معترف بها رسميا. لذا فإن الهدم يهددها بالمجمل، لا مجرد بضعة بيوت. وهنا أيضًا يبرز التمييز التاريخي ضد فلسطينيي 48، إذ سيطرت الدولة على غالبية أراضي النقب، وحاولت تجميع سكانه الأصليين في بضعة قرى فقيرة ومزدحمة، ورفضت الاعتراف بالقرى الأخرى ومنعت الخدمات الأساسية عنها، وهدمت بيوتها مراراً وتكراراً، لكي تجبر أهلها على الرحيل عن الأرض التي سكنوها لعقود. ففي معظم الأحيان تواجد السكان في بلداتهم قبل سن قانون التخطيط والبناء عام 1967 وحتى قبل قيام الدولة. ورغم تواجد المواطنين البدو على مساحة ضئيلة من صحراء النقب، إلا أن الخطاب الرسمي يتعامل معهم كأنهم غزاة، في حين يتم تخصيص مساحات شاسعة للمواطنين اليهود الأفراد لامتلاك مزارع نائية يتم وصلها بشبكات المياه والمجاري والكهرباء. ويتجلى الطابع الاستيطاني الإحلالي المتواصل للدولة في هذه الحالة، لأن الدولة تنوي هدم أم الحيران وإزالة سكانها من أجل بناء مستوطنة يهودية في مكانها. كما يتجلى الشبه بين ممارسات الدولة تجاه الفلسطينيين سواء كانوا مواطنين أم لا، سواء احتلتهم عام 1948 أو عام 1967.
وقد ترافق مع عملية الهدم تعزيز شرطي كثيف تخلله استشهاد أحد سكان أم الحيران، هو يعقوب أبو القيعان. وما يوضح تسييس الشرطة لجزء من منظومة القمع هو هرولة الشرطة إلى تصوير الضحية كإرهابي داعشي، ثم محاولتها بشتى الطرق منع جنازته لكي لا تتحول إلى مناسبة احتجاجية. ولم يُطلق سراح الجثمان إلا بعد تدخّل المحكمة العليا.
التنظيم السياسي
أولاً، لم تكن الوحدة الانتخابية ضمن قائمة واحدة هي القائمة المشتركة تعبيراً عن وحدة مضمونية، بل مجرد قائمة انتخابية. أي أنها كانت ردة فعل على رفع نسبة الحسم للمشاركة في الكنيست، لا تقييماً جذرياً لمفهوم المشاركة السياسية أو لأدوات النضال في المرحلة المقبلة.
ثانياً، لم تنجح الهيئات التمثيلية، في السنوات الأخيرة، في أن تتحول إلى رافعة للتنظيم الجماعي القومي، خاصة على ضوء اختلاف مركباتها حول ماهية هذا التنظيم وأولوياته. فلجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية واللجنة القُطرية لرؤساء السلطات المحلية لا تتعدى كونها هيئات تنسيقية، وتفتقر لجنة المتابعة للتمثيل الانتخابي المباشر.
ثالثاً، ومن ضمن هذه الخلافات، التقسيم بين ما يسمى "المعتدلون والمتطرفون" حتى ضمن مركبات القائمة المشتركة. فتجد أن التضامن الداخلي بين الأحزاب السياسية ضعيف، ما يعطي الفرصة للسلطات لمحاصرة من تعتبرهم متطرفين وإقصائهم. ومثال ذلك الأكبر مرور حظر الحركة الإسلامية مرور الكرام بين الجماهير العربية في الداخل. وأخيراً، سارع بعض السياسيين في الداخل إلى التأكيد على عدم تضامنهم مع باسل غطاس، وعلى كونهم يعملون في إطار القانون. ولا شك أن على من يرون أنفسهم معتدلين أن يراجعوا حساباتهم لأن صعود اليمين والمستوطنين السياسي يعني أن الملاحقة ستأتي على الجميع عاجلاً أم آجلاً، إلا إذا قبلوا بالرضوخ التام غير المشروط. كما أن تحديد العمل السياسي بحدود القانون عندما يكون القانون غاشماً ويزيد بشكل متواصل من انكماش الحيز المتاح للمعارضة الجدية يعني التخلي التام عن بلورة استراتيجية قائمة على التضامن بين مركبات الفلسطينيين المختلفة.
رابعاً، الإعلان عن يوم عالمي للتضامن مع فلسطينيي الداخل من قبل لجنة المتابعة يعبر عن خطوة رمزية تفتقر للدراسة الجدية وترسخ من تفتيت الشعب الفلسطيني إلى مركباته، بدل التأكيد على وحدة المصير والكفاح. والحقيقة أن هذا الإعلان متناسق مع فكر تيار يصر على خاصّيّة الفلسطينيين في الداخل ليبرر الاندماج في النظام السياسي الإسرائيلي ورفض الانخراط في التنظيمات الفلسطينية المقاومة. ولا شك أن على هذا التيار أن يراجع نهجه على ضوء تحوّل الاحتلال المؤقت إلى دائم، وبالتالي محو الفوارق ما بين الفلسطينيين في الضفة والفلسطينيين في الداخل.
لذا، أصبح من الضروري، أكثر من أي وقت مضى، محاولة تطوير فكر ونهج استراتيجيين.
ولا أقصد بالفكر الاستراتيجي حلقات دراسية وأوراق عمل، وإنما ممارسة تنظيمية بين الناس لمساعدتهم على الصمود في ظروف سياسية واجتماعية صعبة، والمحافظة على المقومات الكفاحية للقيام بما هو أكثر من مجرد ردود الفعل، وأكثر من مجرد تظاهرات متقطعة، والتواصل مع الناس أكثر من مجرد المواسم الانتخابية. وهناك حاجة لتعزيز التواصل بين شقي الخط الأخضر لتجاوز الانقسامات الجغرافية الوهمية والقانونية المفروضة على أبناء الشعب الواحد. بدون مثل هذا التفكير والتجريب لمحاولة تجاوز التكتيك إلى الاستراتيجية سيكون من الصعب على فلسطينيي الداخل تغيير ظروفهم بشكل جذري.