الرزنامة ليست محايدة في ما يخصُّ الذاكرة الفلسطينية (ولا أيّ ذاكرة أخرى). الزمن نفسه محايد. الأشهر لا تأبه بما يخلعه عليها البشر من حمولات. لا يفهم شهر نيسان قول تي إس إيلوت بأنه أقسى الشهور. ولا يعرف آذار قصيدة محمود درويش عن يوم الأرض.
ليس للزمن، نفسه، ذاكرة. إنه يتدفَّق كنهر عنيد لا يتوقف إلا مع توقف آخر كائن بشري عن التنفس. فنحن آلة الزمن وذاكرته. وهكذا لا تمرُّ الأشهر، في الذاكرة الفلسطينية، مرور الكرام. هذه الكلمات المكتوبة في أواخر شهر أيار/ مايو لن تظهر إلا في شهر حزيران/ يونيو.
هذان شهران قد لا يعنيان، كثيراً، لشعوب أخرى، لكنهما فلسطينيان وعربيان بامتياز. أيار الشهر الذي شهد نكبة فلسطين، باقتطاع جزء كبير من أرضها وتأسيس دولة استعمارية استيطانية على أرضها تدعى "إسرائيل"، وحزيران هو الذي شهد سقوط ما تبقى من أرض فلسطين في يد العدو الإسرائيلي، فضلاً عن احتلال هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية. في أيار رُفِعَ علم الاحتلال على "القدس الغربية". طرد تسعون بالمئة من الشعب الفلسطيني خارج أرضه التاريخية، وتحوَّل مذ ذاك (أيار 1948) إلى شعب لاجئ داخل أرضه وخارجها.
ولم يمض وقت طويل حتى أقرَّت حكومة الاحتلال قانوناً يسمى "أملاك الغائبين"، وهي الأرض والمقتنيات التي خلفها الفلسطينيون وراءهم، وعهدت بها إلى ممثل منتدب عنها سمته "القيّم على أملاك الغائبين". وقد عرَّف هذا القانون، والذي أقره "الكنيست" عام 1950، "الغائب" بأنه "أي شخص كان بين 29/11/1947 و14/5/1948 مالكاً لأي ملكية أو منتفعاً بها أو واضعاً اليد عليها، أَكان من رعايا الدول السبع المحاربة (سورية، مصر، لبنان، الأردن، العراق، اليمن، السعودية)، أو مواطناً فلسطينياً غادر مكان إقامته المعتاد في فلسطين إلى مكان ما خارج فلسطين قبل 1/9/1948، أو غادر إلى منطقة ما في فلسطين تسيطر عليها قوات حاربت القوات الإسرائيلية".
بهذا القانون، الذي لم تكن تحتاج إليه "إسرائيل"، إلا شكلاً، وضعت يدها على أكثر من 94 بالمئة من أرض فلسطين التي احتلتها عام 1948.
وفي حزيران 1967 صارت كل أرض فلسطين تحت احتلالها. لكنَّ حمولات الأشهر قد تتغير. بالإرادة والتمسّك بالحق والنضال من أجله، يمكن لأشهر الرزنامة أن تنتج معاني جديدة. وهذه ليست معجزة، ولا خارقة من الخوارق. إنه التاريخ.. الذي حدث، على هذا النحو، كثيراً.