في ضوء واقع أنه بعد انقضاء نحو عقدين على اتفاق أوسلو لم يبق من منظمة التحرير الفلسطينية إلا اسمها بعد أن ابتلعتها سلطة "الحكم الذاتي" (وهي سلطة ما لبثت أن انشطرت، سنة 2007، إلى "سلطتين" متنافستين؛ إحداهما في الضفة الغربية المجزأة إلى معازل تديرها حركة "فتح"، والثانية في قطاع غزة تديرها حركة "حماس" بعدما تحولت بفعل الحصار إلى معتقل وغيتو لمليون وسبعمائة ألف إنسان)، كان من المنطقي والطبيعي أن تكتسب عملية إعادة تأسيس منظمة التحرير ككيان وطني جامع وممثل لكل مكونات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها زخماً خاصاً.
وقد انعكس هذا الزخم خلال السنوات القليلة الفائتة في عدد من الحراكات الفكرية والشعبية، لعل أبرزها الحراك المترتب على نشاط "مجموعة دعم وتطوير مسار المصالحة الوطنية" التي تأسست سنة 2010، وهي إطارٌ وطنيٌّ تعدديٌّ ومفتوحٌ للحوار، بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني، ويهدف أساساً إلى المساهمة في إزالة العقبات والعراقيل أمام المصالحة الوطنية، من أجل تحقيق إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أسس وطنية وديموقراطية، وتجسيد شراكة حقيقية تُمكّن الشعب الفلسطيني من زج جميع طاقاته وكفاءاته وإبداعاته في مجرى قادر على تحقيق أهدافه بتقرير المصير وإنهاء الاحتلال والعودة والاستقلال الوطني.
وفي صيف 2013 أنجزت هذه المجموعة وثيقة بعنوان "حول إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية". أعد المسوّدة الأولى لهذه الوثيقة الباحث وعالم الاجتماع الفلسطيني، جميل هلال، وجرى حولها نقاش في ورشتين ساهم في تطويرها، قُدمتْ خلالهما ثماني أوراق، تناولت أوضاع مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، وقدمت رؤى وتصورات حول إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والتمثيل الوطني.
هذا بالإضافة إلى ثماني أوراق أخرى تناولت أوضاع عدد من الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية الفلسطينية، ومن ثم عرضت الوثيقة للحوار في اجتماع موسع للمجموعة، كما نظمت لاحقاً ورشات عمل لنقاشها في عدد من المدن في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي فلسطين المحتلة عام 1948 واللجوء الفلسطيني، طرحت خلالها آراء واقتراحات تدعم وتثري الأفكار والتوجهات العامة الواردة في الوثيقة التي تستند أيضاً إلى مجموعة من المصادر والمراجع.
وأشارت الوثيقة من ضمن أمور أخرى إلى أن تجمعات (ومجتمعات وجاليات) الشعب الفلسطيني تواجه شروط حياتها وقضاياها الوطنية والاجتماعية والثقافية بدون قيادة سياسية موحدة، وبدون مؤسسات وطنية تمثيلية وديموقراطية، وبدون استراتيجية كفاحية تشرك جمهورها في النضال متعدد المستويات، الذي يشمل حقوقها الاجتماعية-الاقتصادية والإنسانية والوطنية.
تحولات بنيوية جذرية
وفي حديث خاص مع الباحث وعالم الاجتماع الفلسطيني، جميل هلال، عزا سبب ذلك إلى تحولات بنيوية جذرية شهدها الحقل السياسي الفلسطيني الوطني خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وبشكل خاص منذ إبرام اتفاق أوسلو وقيام حكم ذاتي محدود الصلاحيات على أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967.
وقال هلال لـ"فلسطين - العربي الجديد": "طرأت تحولات بنيوية جديدة خلال العقد الأول من القرن الحالي مع تفجر الانتفاضة الثانية واجتياح إسرائيل مدن الضفة الغربية، وغياب الرئيس، ياسر عرفات، عن قيادة السلطة الفلسطينية وعن زعامة منظمة التحرير، وبعد الانتخابات التشريعية سنة 2006، ودخول الحقل السياسي في حالة انقسام سياسي - جغرافي مؤسساتي ما زال قائما حتى هذه اللحظة.
وقد رافق هذا انكشاف واسع للحركة السياسية الفلسطينية بعد أن اتّضَح عقم استراتيجية تعتمد المفاوضات المفتوحة دون مرجعية وطنية وشرعية دولية، ودون مساندة عربية مؤثرة وإسناد دولي فاعل، وبعد أن تبين حدود استراتيجية تقوم بشكل أحادي الطرف على المقاومة المسلحة، كما اتضحت نخبوية الاستراتيجيتين لتغييبهما دور الجمهور الفلسطيني بفئاته ومكوناته المختلفة وتحييدهما دور القوى العربية والدولية المساندة للنضال الوطني الفلسطيني والمعادية للعنصرية والاستعمارية الاحتلالية الإسرائيلية.
هذا مع أهمية عدم وضع الاستراتيجيتين في كفة واحدة وبشكل متماثل ومتساو، خصوصًا فيما يتعلق بدور الجماهير، إذ بينما حظيت استراتيجية المفاوضات المفتوحة بدعم الأنظمة والحكومات، كانت الاعتراضات الشعبية عليها واسعة، بينما حظيت استراتيجية المقاومة (بالمعنى الشمولي للكلمة) بدعم شعبي واسع واعتراض أو تحفظ رسمي عليها".
وبرأيه، شهدت إسرائيل أيضاً تحولات مهمة منذ اتفاق أوسلو، من أبرزها انحراف حقلها السياسي نحو اليمين المتطرف واتضاح اعتماد قادتها سياسة مانعة لقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، ومواصلتها توسيع وبناء المستوطنات وتشييد الطرق الالتفافية وخلق المعازل للفلسطينيين داخل الضفة الغربية، وتهويد القدس وممارسة سياسة تطهير إثني تجاه مواطنيها من الفلسطينيين، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة وفرض حصار تجويعي عليه، بالإضافة إلى تشييد جدار الفصل العنصري، ومواصلة فرض السيطرة على الموارد الطبيعية والطرق والمعابر واحتجاز المواطنين وشن الحروب، كما جرى ضد قطاع غزة في أواخر 2008 وأوائل 2009، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، وفي تموز/ يوليو 2014.
وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، طرأت على العالم العربي والمنطقة، وعلى العلاقات الدولية، تحولات ذات أبعاد استراتيجية كانت لها تداعيات مباشرة على قضية الشعب الفلسطيني، كان من أبرزها فقدان منظمة التحرير حليفا دوليا استراتيجيا مثّله الاتحاد السوفييتي، وتراجع مكانة ونفوذ كتلة عدم الانحياز التي آزرت النضال الوطني الفلسطيني.
وشهدت هذه الفترة تراجعا ملموسا في الدعم العربي الرسمي للنضال الوطني الفلسطيني وانزياح معظم الدول العربية نحو الامتثال لمواقف الولايات المتحدة الأميركية، وتبني الليبرالية الجديدة على مستوى سياساتها الاقتصادية، وتخبط العديد من دول المنطقة وخارجها التي أنجزت استقلالها السياسي على صعيد تحولاتها الداخلية. وشهد عدد من الدول العربية انتفاضات شعبية ديمقراطية (رفعت شعار "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية") أطاحت بأنظمة ديكتاتورية فاسدة وتمكن في بعضها تيار إسلامي محافظ (منبثق من جماعة الإخوان المسلمين) من تولي زمام السلطة عبر صناديق الاقتراع من دون أن يتبنى هذا التيار سياسة مواجهة مع إسرائيل ولا مع حليفها الاستراتيجي، الممثل في الولايات المتحدة.
وهو تحول أبقى الحراك الشعبي من أجل "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية" قائما، بل وربما أمده بزخم جديد بسبب استمرار التمسك بالسياسات الاقتصادية التي سبقت الانتفاضات، وبقاء الارتباطات التبعية والمنفردة (على صعيد كل دولة عربية على حدة) بالعولمة. لكن تواصل عمليات التحول الديمقراطي في المحيط العربي سيبقي القضية الفلسطينية في مركز الاهتمام العربي.
الوطنية الفلسطينية لم تفقد حيويتها
ويؤكد هلال أنه لا يجوز الاستخلاص من حالة الانقسام والانكشاف في الحقل السياسي الفلسطيني، ومن شلل مؤسسات منظمة التحرير، واختفاء المؤسسات الوطنية الجامعة والفراغ الاستراتيجي، وغياب المركز القيادي، أن الوطنية الفلسطينية فقدت حيويتها، بل ربما شكلت هذه العوامل ومجمل التحديات المحيطة بالشأن الوطني الفلسطيني حافزا لهذه الوطنية، كما يمكن الاستخلاص من أحداث تجري وجرت بين التجمعات الفلسطينية المختلفة.
كان من هذه الأحداث في الفترة الأخيرة مستويات التضامن العالية بين التجمعات الفلسطينية ضد الحرب العدوانية على قطاع غزة وما جسّده الشعب الفلسطيني هناك من صمود ومقاومة باسلين استطاعا إفشال الأهداف الإسرائيلية، ومبادرات لبناء قرى فلسطينية على أراضٍ تخطط إسرائيل لاستيطانها في سياق ممارسة أشكال متنوعة من المقاومة للاحتلال والعنصرية على امتداد خارطة فلسطين التاريخية، وما يجري من تداولات ومبادرات سياسية وفكرية داخل وبين التجمعات الفلسطينية، وبروز الحراكات الشبابية، وحملات الدعم لإضراب الأسرى في سجون الاحتلال.
هذا إلى جانب اتساع نطاق حملات المقاطعة لدولة الاحتلال، وتنامي دور لجان العودة والأطر المنظمة للجاليات الفلسطينية في الشتات، وتنظيم حملات كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، إضافة إلى الفعاليات المتنوعة على الصعيد الثقافي (الأدبي والفني والسينمائي والتشكيلي والمسرحي، إلخ) داخل فلسطين وخارجها، الأمر الذي يعيد التجديد والاحتفال بالإرث الوطني للشعب الفلسطيني بمكوناته المختلفة.
متطلبات تحولات الأوضاع
إن ما سبق يعني، في قراءة هلال، أن هناك حاجة للأخذ بعين الاعتبار، لدى إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، متطلبات التحولات التي دخلت على الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية خلال العقدين الأخيرين بشكل خاص، لاختلافها جذريا عن الأوضاع التي سادت عند تأسيس منظمة التحرير في منتصف وأواخر الستينيات، وتختلف كذلك عن الظروف والشروط التي سادت في عقدي السبعينيات والثمانينيات.
ومع أهمية ملاحظة حالة التردي والانحدار التي عانت منها الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية، وما أدت إليه من تهميش للقضية الفلسطينية، إلا أن هناك بعض التطورات المهمة التي ينبغي أخذها في الحسبان، مثل التراجع النسبي للدور الأميركي والغربي في العالم جرّاء الأزمة الاقتصادية العالمية والخسائر المترتبة على احتلال أفغانستان والعراق، وصعود أدوار الصين والهند وتركيا وإيران، وعودة روسيا للعب دور فاعل، والتغييرات العربية التي يمكن أن تفتح طريقًا للنهوض في المستقبل إذا ما استثمرت بالشكل المناسب، بالرغم مما تعانيه حاليًا من مصاعب وتحديات ومحاولات لإجهاضها قبل أن تحقق أهدافها.
فضلاً عن ذلك، تغيّر أيضاً تكوين القوى الفاعلة في الحقل السياسي الفلسطيني بعد الانتفاضة الأولى في أواخر عقد الثمانينيات من القرن الفائت، فقد اختفت تنظيمات سياسية من الحقل وهزلت أخرى واقتحمته تنظيمات جديدة تحولت إلى تنظيمات جماهيرية وبات أحدها منافسا للتنظيم الذي هيمن على حقل منظمة التحرير حتى الانتفاضة الثانية. ولم يعد للحقل مركز واحد، ولا ينظمه ميثاق متفق عليه ولا استراتيجية واحدة ولا مرجعية متفق عليها.
وجرى خلال هذه الفترة شل مؤسسات منظمة التحرير لصالح سلطة حكم ذاتي وجدت نفسها محاصرة ومسلوبة الإرادة والصلاحيات وإمكانية التحول إلى دولة ذات سيادة. كما اختلف مصدر ومضمون التدخل الخارجي في شؤون الحركة الفلسطينية، من منافس لمنظمة التحرير على تمثيل جزء من الشعب الفلسطيني أو لامتلاك سيطرة أو نفوذ على القرار الوطني الفلسطيني لتحسين موقعه التفاوضي الإقليمي، إلى تدخل يغذي الانقسام ويفرغ الحقل الوطني من قواه الذاتية. ومن هنا مصدر المخاوف من أن تتم إعادة إحياء منظمة التحرير على نمط لا يختلف كثيرا عن النمط السابق (المحاصصة، الريعية، الزبائنية، البيروقراطية المتخمة، تغييب مساءلة القيادة، إلخ).
وكل هذه الاعتبارات السابقة، يؤكد هلال، تستدعي إعادة بناء الحركة الوطنية ممثلة كإطار مؤسساتي في منظمة التحرير، الاستفادة من سلبيات تجربة المنظمة، وبخاصة توليد مركز وأطراف، منح المركز نفسه فيها صلاحيات صنع القرار السياسي والتنظيمي والمالي والإداري، وترك للأطراف مهمة تلقي التوجيهات والقرارات الجاهزة منه، مما قاد إلى تهميش دور تجمعات فلسطينية ذات أهمية كبيرة (تحديداً المتواجدة على جانبي الخط الأخضر وفي الأردن) في استراتيجيات المواجهة مع الدولة الاستعمارية العنصرية وسياساتها.
وانتقل هذا المركز من خارج فلسطين، حيث تواجد حتى اتفاق أوسلو، إلى الأراضي المحتلة سنة 1967، ثم في العقد الأخير أفول المركز وتكوّن مراكز متعددة لكل منها مراجعه السياسية (الضفة، غزة، فلسطينيو 48)، أو تغيب عنه هذه تماما كما هي حال معظم التجمعات الفلسطينية الأخرى (الأردن، لبنان، سورية، الخليج، أوروبا، الأميركتان، إلخ).