يقول قانون ماركس إن "التغيّر الكمي لا بدّ وأن يؤدّي إلى تراكم كيفي". لكن، بتطبيق هذا القانون على قوى اليسار الفلسطيني فإن محصلة نضال اليسار تعاكس هذا المبدأ.
المتابع للشأن الفلسطيني الداخلي، وخصوصاً منحنيات الانقسام والتغييرات الحاصلة على أرض الواقع، يرى التغيّب الواضح للتنظيمات اليسارية الفلسطينية في موقف موحد، أو موقف مدعوم شعبياً حتى أصبحت النكتة التي يتداولها الجميع أن الحركات اليسارية هي مجرّد متحدثين في الإعلام ومعبرين عن قلقهم حيال مجريات أحداث الانقسام الفلسطيني فحسب.
فما الذي جرى؟ كيف وصل اليسار إلى هذه المرحلة من الترهل والتدهور والتغيب عن صناعة القرار الفلسطيني في مرحلة أخطر على الشعب الفلسطيني من مراحل الثمانينيات والستينيات، والتي تتمثل في الانقسام الفلسطيني.
لماذا سقط خيار اليسار الفلسطيني هنا عن الساحة الفلسطينية وأصبحت الجماهير تبتعد عنه أم أن هناك عوامل أخرى أثرت وسارعت في ذلك؟ هذه الأسئلة التي يجب أن نطرحها ونجيب عليها بعمق.
لم تكن أزمة اليسار الفلسطيني جديدة بل هي قضية قديمة جديدة. فبعد أكثر من سبع سنوات على الانقسام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، أضافت قوى اليسار الفلسطيني علامة رسوب جديدة إلى سلسلة الإخفاقات المتمثلة في انتخابات المؤسسات والاتحادات الطلابية والعمالية والأهلية، ومن قبلها انتخابات عام 2006، وسبقها عدم قدرة قوى اليسار على التوافق على برنامج سياسي موحد منذ قيام السلطة وغيرها من الإخفاقات التي تمثلت في تواجد قيادات "الشعبية" في مناصب السلطة الفلسطينية المنبثقة عن "أوسلو" والمرفوضة، على حد قولهم، من الجبهة الشعبية كمثال عن اليسار.
أما القوى اليسارية الأخرى، والتي انطوت تحت لواء "منظمة التحرير الفلسطينية" بقيادة ياسر عرفات ثم محمود عباس، فأصبحت مجرد أرقام وأسماء لإطالة قائمة أحزاب "منظمة التحرير" ("حزب الشعب الفلسطيني" مثالاً) في مواجهة التيار الإسلامي، وخصوصاً حركة "حماس". فأصبحت الإغراءات المادية والمناصب السياسية إحدى أدوات قيادة السلطة في احتواء قوى اليسار الصغيرة. لتجد أن معظم الأحزاب اليسارية قد تقلد بعض أعضائها مناصب دبلوماسية أو وزارية (مجدلاني مثالاً).
وبدلاً من أن تكون قوى اليسار الماركسية واللينينة في جانب الشعب وتمثل إرادة الشعب، أصبحت مسلوبة الإرادة والقرار والاصطفاف إلى جانب الشعب في جُل القضايا المصيرية والخدماتية. ربما هذا ما عملت عليه قيادة "منظمة التحرير" منذ اتفاق أوسلو، لتحييد قوى اليسار من خلال أدوات مالية وإغرائية ونجحت في ذلك.
من جهة أخرى، لم تتوقف المآزق والانتكاسات لقوى اليسار الفلسطيني بعد الانشقاقات التي طاولت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ومن ثم الفصائل اليسارية الأخرى بل امتدت لتصل إلى الأيديولوجيات والضربات وصلت للمستويات الفكرية.
منذ تأسيس اليسار كان هناك مشكلة في التنظير والتأطير والتطبيق، فأزمة النظرية والمنهج ومن ثم التطبيق والممارسة وضعت اليسار في موقف لا يُحسد عليه، من انقسامات تاريخية عبر الاجتهادات المتعددة وتباين الرؤى بغير عمق نظري وأيديولوجي أدى لانقسامات عميقة داخل اليسار، ومن ثم ارتبطت بعض تلك القوى اليسارية بقوى ودول عربية أدت إلى انحراف بعضهم وطنيا.
هذه الانقسامات اشتدّت عندما احتد الجدل بين المنهجين الماركسي والليبرالي، ومن ثم ضياعهما لعدم فهم التطوّر التاريخي والاجتماعي والاقتصادي المرتبط بهما وإسقاطه على المجتمعات العربية، فغابت تلك الأحزاب عن متطلبات الشارع وارتباطهم في العامة من الشعب واقتصارهم على شرائح معينة من المجتمع فأعطى فرصة ذهبية لقوى أخرى أن تستغل الفرصة وتزاحمها في جماهير الشعب الفلسطيني.
كما يشهد اليسار حالة اغتراب أخطر من خلال الجيل الجديد من اليساريين البعيدين عن المنهج اليساري والمادية الجدلية التي لا يحفظون إلا اسمها، فأصبح اليسار هو العداء للإسلاميين والوطنيين وكافة أشكال التظاهر باللادينية والإلحاد، ما سبّب عداء مجتمعياً لليسار بشكل أكبر مما أوجدته الحركات الإسلامية من خلال تغليب النزعة الدينية على المجتمع عبر المساجد والمراكز الإسلامية.
ولا يمكن عند الحديث عن اليسار الفلسطيني إغفال المحيط العربي والعناصر والسياق التاريخي الذي أحاط المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا.
ومن حيث المبدأ فإن التسارع الكبير لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومع تقوقع اليساريين حول قاعدتهم البسيطة، وتمسكهم بطبقة المثقفين كقاعدة شعبية لهم والبرجوازية الصغيرة والمؤقتة فإن ارتباطهم بالقاعدة الكبيرة التي انفتحت على العالم أوقف اليسار من تأطير المزيد من اليساريين وحدَّ من قدرة اليسار على التواصل بطرقهم التقليدية التأطيرية والتنظيرية مع الشعب الذي اتجه إلى أيديولوجيات أخرى أهمها الإسلامية، وخصوصاً بعد الخروج من بيروت عام 1982.
هذا، مع سبب آخر تمثل في الاختراق الليبرالي للأحزاب اليسارية التي كانت تتبنى المدرسة الماركسية الجدلية والعقلانية في الدول العربية عبر منظمات المجتمع المدني المدعومة غربياً.
هناك العديد من الأسباب الأخرى التي سرّعت اضمحلال اليسار العربي بشكل عام وأثرت على اليسار الفلسطيني بشكل كبير.
أول هذه الأسباب هو استغلال الجهل السياسي من قبل الأحزاب المدعومة من الأنظمة العربية، ضمن التجهيل السياسي المتعمد للجماهير العربية من قبل الأنظمة على مدار العقود السابقة. حتى بعد أن بدأ العالم العربي تنظيم الانتخابات لم يكن الناخب يتمتع بثقافة سياسية تمكنه من التفريق بين الأحزاب حسب البرامج والأيديولوجيات.
لعب المال أيضاً دوره، من خلال التعبئة السعودية ضد الاتحاد السوفييتي وتصدير الجهاديين والأصوليين ومحاولة نشر الفكر السلفي في الدول العربية عبر المال السياسي، خصوصاً بعد نجاح الثورة الإيرانية.
وقد أثرت عودة الجهاديين إلى بعض الدول العربية ومن ثم حرب البوسنة والهرسك بشكل كبير على المجتمعات العربية وصعوبة تقبلهم للفكر اليساري المرتبك بالشيوعية، والتي كانت تُحارب من قبل المجاهدين في أفغانستان والبوسنة ولاحقاً الشيشان. فانزرع في عقل الإنسان العربي المدلولات السلبية لليسارية واليساريين.
طبعاً، كان للأحزاب الإسلامية دورها في وقف تطوّر اليسار، ضمن الفهم العام للعلاقة اليسارية والإسلامية كتضاد، ما جعل اليسار يحمّل بدلالات سلبية في مجتمع أغلبيته من المسلمين. فكلمة شيوعي، أو يساري أو رفيق أو اشتراكي أو علماني لها دلالات سلبية في المخيلة العربية الجمعية، والتي عملت الأحزاب الإسلامية طوال الثلاثة عقود الماضية على زرعها في مخيلة وعقلية العرب.
ومن جانب آخر، لعبت الأحزاب الإسلامية ضمن لعبة التأطير الداخلي أو التحشيد ضد اليسار على وتر التاريخ المريب لتلك الأحزاب مثل تشكيل "الحزب الشيوعي" في فلسطين المحتلة ومن ثم ارتباطه بأسماء يهودية وموقف الأحزاب الشيوعية من قرار تقسيم فلسطين ومن ضم لواء الإسكندرون لتركيا.
هكذا تجتمع كل هذه العوامل ضد الأحزاب اليسارية، غير أن الواقع الفلسطيني لا يزال بحاجة إلى يسار، ما يمنح هذا الخيار أفقاً للتحرك والاستمرار.
لكن أين ذهب اليساريون؟ بعد اتفاق أوسلو الذي رفضهُ العديد من اليساريين، ونظروا إليه كتنازل عن فلسطين التاريخية، وجد بعضهم نفسه خارج حلبة المناصب السياسية التي وفّرها ياسر عرفات لضمان ولاء الكثير من اليساريين والأحزاب اليسارية بالرغم من كونهم أعضاء في منظمة التحرير.
ولكن هناك الجزء الأكبر منهم، متمثلاً في "الجبهة الشعبية" وآخرين من أحزاب أخرى كـ"حزب الشعب الفلسطيني" و"الجبهة الديمقراطية"، رفضوا الانخراط في أجهزة ومؤسسات السلطة الفلسطينية واتجهوا للعمل في ما رأوه أقرب للمواطنين وفي موقف رقابي ومضاد للسلطة الفلسطينية وهي منظمات المجتمع المدني.
معظم هؤلاء، كما تقول الصحافية اليسارية سامية الزبيدي، من الصف الثاني في الأحزاب اليسارية التي انكشف تناقض مواقفها تجاه "أوسلو" وممّن وجدوا أنفسهم خارج إطار الأحزاب اليسارية الأخرى.
اتجاه اليساريين لمنظمات المجتمع المدني والمدعومة أجنبياً (أميركياً وأوروبياً)، جاء بأجندات غربية ليبرالية لنشر الديمقراطية والرأسمالية والفردية في المجتمع الفلسطيني من أجل التحضير لإعلان الدولة الفلسطينية عام 1999.
ولكن بعد فشل اتفاق المرحلة، استمرت تلك المؤسسات وأغدقت الأموال بشكل مشروط على تلك المؤسسات والتي يرأسها ويعمل فيها اليساريون بشكل كبير، وبرواتب عالية مع أجندات خارجية، ما أبعد اليساريين بشكل كبير عن القاعدة الشعبية وكوّن شريحة جديدة في المجتمع هي شريحة البرجوازيين الجدد.
هذا التحوّل الكبير لليساريين أدّى إلى سلخهم عن الواقع الفلسطيني ووضع علامات استفهام أمام قدرة اليسار على مواجهة التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية.
ومما دفع اليساريين من الصف الثاني إلى التوجه لمؤسسات المجتمع المدني هو انكشاف زيف بعض القيادات اليسارية بعد أن استغلوا مناصبهم القيادية للحصول على مناصب لأبنائهم وعوائلهم. فنرى أغلب قيادات اليسار يعمل أبناؤهم في السلطة الفلسطينية ويتلقون رواتبهم تحت اسم السلطة الفلسطينية، وهو ما أوجد عنصراً ضاغطاً على تلك القيادات بتكميم أفواههم من خلال تلك الامتيازات.
إن اليسار الفلسطيني وانقساماته والشوائب التي نخرت عظمه وكسرت هيبته الأيديولوجية والتنظيرية بعد قيام السلطة الفلسطينية، أدّت ليس فقط إلى ضعفه، بل أيضاً أعطت الفرصة في بدايات إقامة السلطة الفلسطينية إلى تفرّد "حركة فتح" في القرار.
بعد ذلك، استفادت حركة فتح وقيادتها من تفكك اليسار الفلسطيني، وهو ما تجلّى في آخر انتخابات بعدما ترشحت قوى اليسار بأكثر من عشر قوائم ولم ينجح منهم إلا أربع شخصيات فقط.
هكذا، يتحمّل اليسار جزءاً كبيراً من المسؤولية في إعطاء فرصة كبيرة لـ"فتح" في التفرّد بالقرار بعد اتفاقية أوسلو، ثم وبسبب ضعفه واتجاه عناصره لمؤسسات المجتمع المدني المدعومة بالمال الغربي، أعطى فرصة أكبر للحركات الإسلامية كي تتصدّر مشهد معارضة اتفاق أوسلو ومعارضة تفرد حركة "فتح" بالسلطة. لتكون النتيجة أن كلاً من "فتح" و"حماس" استفادتا من التغييب الذاتي للحركات اليسارية بكافة أطيافها.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن اليسار فشل في تكوين قيادات جديدة من الشباب، ما أدى إلى فشله في تحقيق انتصارات انتخابية على مدار العشرين عاماً الماضية في النقابات المهنية والطلابية والعمالية.
لكن، وفي ظل الانقسام الفلسطيني المستمر في ظل التعنت والتحزّب غير المبرّر في قضية وطنية كقضية الوفاق الوطني وإنهاء الانقسام، لا بد من بديل أيديولوجي قوي لتحشيد الشعب الفلسطيني، ليس فقط رفضاً للانقسام ولكن مطالبةً بأسس العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
هذه الحاجة يؤكدها تغلغل الجشع الاقتصادي وتزاوج السلطة السياسية مع قوى رأس المال في الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي الضفة الغربية، تعمل جهات سياسية واقتصادية على تنفيذ "خطة السلام الاقتصادي" من خلال إنشاء مشاريع اقتصادية تهدف إلى خلق طبقة وسطى أو طبقة برجوازية جديدة تتمتع بحياة أفضل، بينما تضج المخيمات والقرى الفلسطينية بالفقراء والمواطنين العاديين بدون قدرات على صناعة القرار وتقرير المصير.
أما قطاع غزة، فيرزح فيه ما يقارب مليوني فلسطيني تحت الحصار، في ظل تعنت حركة "حماس" لتحقيق المصالحة بدون شروطها المسبقة والتي تتمثل بتوظيف كل عناصرها ضمن ميزانية السلطة والسيطرة الأمنية على قطاع غزة.
في السنوات الأخيرة، وما قبل تشديد الحصار المصري على غزة، ظهرت طبقة وسطى جديدة، وهي من تجار الأنفاق، وهم في الغالب ينتمون إلى حركة "حماس" أو من المقربين منها، مقابل انتشار الفقر بين المواطنين، وخصوصاً الشباب العاطلين من العمل، وفي الأحياء الفقيرة.
هكذا تغيب العدالة الاجتماعية. وفي ظل عدم وجود أفق سياسي لحل سلمي مع دولة الاحتلال أو أفق سياسي للوحدة الوطنية الداخلية، يجب البحث عن بديل.
هذا البديل والذي يمكن أن يغطي عجز الحركات السياسية المنقسمة وأن يكون الثقل الوطني لفرض رؤية المجتمع على السلطة الفلسطينية والقيادة هو حزب أو مجموعة أحزاب ذات أيديولوجية قوية ومتقاربة، تستطيع الوصول إلى الفلسطينيين من خلال الفكر والعمل والتأطير السليم.
حاجتنا لليسار تتمثل في قدرة اليسار كأيديولوجيا وحدوية، تحمل رسالة العدالة الاجتماعية. ويمكن هنا تذكّر التجربة الناجحة لقوى اليسار بالتحالف مع "فتح" في قيادة الانتفاضة الأولى.
على الرغم من الصعوبات التي تقف في وجه اليسار الفلسطيني، واحتمالية عدم قدرته على تأطير عناصر للانضمام لأحزابه المختلفة، إلا أن هناك أملاً في أن يُقدم اليسار على أخذ زمام المبادرة ويجدّد خطابه الإعلامي وبرامجه السياسية لتلامس الواقع الفلسطيني وتخاطب الحاجيات للمواطن في الداخل والخارج واللجوء/الشتات.
وهذا من الممكن التعويل عليه، إلى جانب عناصر أخرى، يمكنها أن تحقق نجاحاً في تحشيد الجماهير لوقف الاستنزاف الفلسطيني المتمثل بشكل واضح، الآن، في "الانقسام" والوقوف في وجه محاولات إحلال مشاريع التسوية المضادة للتحرر مقابل امتيازات و"تسهيلات" اقتصادية حياتية يومية.