أوشكت شمس عمان على الغروب ولا يزال الغواص الأربعيني حفيظ الشنفري بين هبوط وصعود بحثا عن رخويات الصفيلح في مياه محافظة ظفار الجنوبية ممسكا بأداة "الجزرة" التي تشبه السكين ومرتديا منظارا للعين، وحول خصره سلة فارغة، كان يتوقع ملأها بعدة كيلوغرامات من الكائنات البحرية المعروفة بـ"ذهب البحر" إذ يتراوح سعر الكيلوغرام منها بين 40 ريالا عمانيا أي ما يوازي 105 دولارات أميركية، و60 ريالا أي ما يوازي 156 دولارا أميركيا للأحجام الكبيرة، والتي يزيد طولها عن 15 سنتيمترا بوزن يصل إلى 200 غرام.
انتهى اليوم، وبعد عناء اصطاد الشنفري 5 كيلوغرامات عاد بها إلى بيته في موسم لم يجن فيه سوى 10 آلاف دولار خلال الفترة من 7 وحتى 18 ديسمبر/كانون الأول من عام 2016، رغم قضائه معظم الوقت في الغوص بحثا عن الصفيلح وفق روايته لـ"العربي الجديد".
"قد يبدو المبلغ كبيرا للبعض"، يضيف الغواص العماني المخضرم، والذي بدأ مهنته في عام 1990، "لكن الحقيقة أن قيمة ما بعته من الصفيلح في العام الماضي قليلة، إذ سبق وأن اصطدت كميات تصل إلى 18 وحتى 25 كيلو في اليوم الواحد، حتى وصل العائد إلى 52 ألف دولار، لا بل وصلت في موسم إلى تحقيق 78 ألف دولار"، لكن الصفيلح بدأ بالتناقص في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أثر سلباً على الحياة المعيشية للغواصين كما قال الشنفري.
حسنا بالفعل تؤكد التقارير الصادرة عن المديرية العامة للثروة السمكية العمانية، أن إنتاج الغواصين من "الصفيلح" في تناقص مستمر، إذ وصلت كمية صيده في العام 2016 إلى 54 طنا، وهي زيادة طفيفة عن عام 2014 إذ لم تتجاوز نسبة الـ 7% على الرغم من إغلاق موسم الصيد أمام الغواصين في العام 2015، وهي كمية قليلة، مقارنة بحجم صيد الصفيلح في العام 2011، إذ وصل حجم إنتاجه إلى 150 طنا بعد فترة حظر لصيده خلال الأعوام الثلاثة السابقة، غير أن مؤشرات تقييم موسم 2011 كشفت أن 50% من حجم الإنتاج كان من الأحجام الصغيرة، الأمر الذي أدى إلى استنزاف المخزون، وتدنت معه كثافة الصفيلح بالبحر، وهو ما انعكست نتائجه في العام 2012، إذ انخفض الإنتاج بنسبة 63% عن العام 2011 وفقا لتقارير المديرية ذاتها.
الصفيلح في طريقه إلى الانقراض
''هليوتس ماريا'' هو الاسم العلمي لرخويات أذن البحر العُمانية المعروفة محلياً بـالصفيلح وعالميا بـ "الأبالوني" وهي عبارة عن كائن رخوي، يعيش ملتصقا بالأسطح السفلية للصخور البحرية، داخل صدفة بيضاوية الشكل، وخشنة السطح من الخارج، ذات صف من الثقوب على جانبيها تساعده على التنفس، وهو ليلي المعيشة إذ تنشط حركته في الظلام وتقل أثناء فترة النهار، ويظل مختبئاً في الجحور والصخور والشقوق الصخرية، حتى لا يكون لقمة سائغة للمفترسات، ويتغذى على الطحالب والأعشاب البحرية بحسب ما قاله الدكتور علوي بن سالم آل حفيظ مدير عام الثروة السمكية في محافظة ظفار، متابعا لـ"العربي الجديد": "الصفيلح واحد من مكونات الثروة البحرية النادرة التي تزخر بها المياه العمانية، والتي تنفرد بها دون غيرها من الدول العربية، وهي محدودة الانتشار، حيث ينحصر تواجدها في السواحل الشرقية لمحافظة ظفار جنوب عمان ما بين "ولاية مرباط ونيابة شربثات بولاية شليم وجزر الحلانيات"، مع وجود بعض التجمعات الصغيرة في منطقة صوقرة بالمحافظة الوسطى وسط عمان، غير أن هذه الثروة تعاني من تذبذب في الإنتاج خلال السنوات الماضية، وهو ما يؤكده سالم بن أحمد الغساني مدير مركز البحوث السمكية بمحافظة ظفار لـ"العربي الجديد"، موضحاً أن مخزون الصفيلح في حاسك في مرحلة حرجة من التناقص، ولكنه لم يصل لمرحلة الانقراض، بينما المخزون في سدح ومرباط في حالةٍ أفضل منها في حاسك، وبشكلٍ عام فإن معدل تواجد الصفيلح في سلطنة عمان في حالة تناقص، وإن كان قادرا على التكاثر، فإنه سيتوفر بكميات أقل من السابق، لكن الغواص الشنفري يتوقع انقراض الصفيلح في السنوات المقبلة في ظل غياب الرقابة على السواحل التي يتواجد فيها الصفيلح طوال أشهر العام، مستدركاً بالقول: "أخشى أن يأتي اليوم الذي نتحدث فيه مع الأجيال القادمة عن وجود كائن رخوي يدعى الصفيلح كانت تنفرد به السواحل الجنوبية من عمان".
الصيد الجائر
يستخرج الصيادون قطعة من اللحم من الصفيلح يصل حجمها إلى راحة الكف، ويقوم التجار، بغليها وتجفيفها على قطع خاصة من الخشب أو شباك الصيد، تحت أشعة الشمس لفترة قد تصل إلى 20 يوماً، وكلما زادت مدة التجفيف زادت جودة الصفيلح، ومن ثم تعليبها وبيعها إلى الأسواق الخارجية، خاصة دول شرق آسيا وأهمها هونغ كونغ التي تعتبر سوقاً رئيسية، تقبل على الصفيلح العماني لجودته وندرته، كما يقول الدكتور علوي.
ويعتبر الصيد الجائر الذي يمارسه الغواصون وهواة صيد الصفيلح من الأسباب التي أدت إلى تناقصه في السواحل الشرقية لمحافظة ظفار جنوب عمان، إلى جانب مضاعفة عدد الغواصين الحاصلين على رخص من وزارة الزراعة والثروة السمكية والذي وصل إلى 2590 رخصة في عام 2016، بينما يغوص آخرون بحثا عن "ذهب البحر" بدون رخص، الأمر الذي شكل ضغطا على المخزون، وأثر على هذه المصائد مما سبب في تذبذبا في الإنتاج السنوي حسبما يقول الدكتور علوي، على الرغم من أن المادة (15) من اللائحة التنفيذية لقانون الصيد البحري وحماية الثروة المائية الحية الصادر عن وزارة الزراعة والثروة السمكية بالقرار الوزاري رقم 4 لسنة 1994، وما تبعه من تعديلات في أعوام لاحقه والضوابط الإدارية والقانونية لتنظيم استغلال هذا المورد مثل تحديد الحجم القانوني المسموح بصيده، والذي لا يقل طول محارته عن 9 سم، وتحديد فترة موسم الغوص وإدخال نظام لتراخيص الغوص وتجارة الصفيلح، وحظر استخدام أسطوانات ومعدات الغوص الاصطناعية والأنوار الكاشفة تحت الماء وتقليب الصخور، إلى جانب قيام وزارة الزراعة والثروة السمكية بالمراقبة من خلال فرق الرقابة التابعة لها، معززين بأفراد من مؤسسات الأمن والسلامة بالإضافة إلى تعزيزات من شرطة عمان السلطانية، وهذه الفرق موزعة في مراكز على طول الشريط الساحلي ما بين ولاية "مرباط ونياب شربثات بولاية شليم وجزر الحلانيات" عبر الجولات الرقابية الشاطئية بواسطة السيارات، والبحرية بواسطة القوارب، وتعزز فرق المراقبة بأفراد من مؤسسة الأمن والسلامة، كما يتم الاستعانة وطلب الإسناد من شرطة عمان السلطانية، والجهات الحكومية الأخرى عند الحاجة بحسب مدير عام الثروة السمكية بمحافظة ظفار الدكتور علوي، لكن الغواص الثلاثيني أحمد حسين آل حفيظ يؤكد لـ"العربي الجديد" أن الجهود الرقابية غير كافية في السواحل التي يتواجد فيها الصفيلح حيث اعتاد البحث عنه وصيده، مضيفا أن العقوبات ليست رادعة للمخالفين، ورغم جهود وزارة الزراعة والثروة السمكية، إلا أن هناك قصورا كبيرا في الرقابة على المخالفين، لا سيما الذين يمارسون الصيد الجائر خارج موسم الصيد، فالرقابة تبدأ قبل الموسم بشهر وتستمر خلال أيام الموسم وتغيب باقي أشهر العام، وهو ما يؤكد عليه الغواص الشنفري.
عقوبات رادعة
تحدد المادة (50) من اللائحة التنفيذية لقانون الصيد البحري وحماية الثروة المائية الحية الخاصة العقوبات الجزائية لمخالفي الأحكام والضوابط المنظمة لعمليات صيد الصفيلح، إذ نصت على أنه في حالة وجود تجاوزات قانونية تتراوح الغرامة المالية من 300 ريال عماني (780 دولارا) وتصل إلى 5000 ريال عماني (13003 دولارات)، والسجن من شهر إلى ثلاثة أشهر، ويمكن الحكم بالعقوبتين معا مع مصادرة المضبوطات وتضاعف العقوبة في حالة تكرار المخالفة، غير أن الغواص آل حفيظ يشكك بتطبيق هذه المادة من اللائحة التنفيذية، لافتا إلى أن بعض الحالات المخالفة التي يتم ضبطها من قبل المراقبين لا تلبث أن تعود لتمارس صيدها الجائر على هذه الثروة البحرية من جديد دون اكتراث بالعقوبات مقارنة بما تحصل عليه من مبالغ مالية من هذه الثروة، "كونها مصدر دخل مجز، نظرا لارتفاع أسعارها"، بحسب ما يقوله مدير عام الثروة السمكية بمحافظة ظفار.
حلول رسمية
تعمل وزارة الزراعة والثروة السمكية على تعديل القوانين والتشريعات وتحديثها دورياً منذ العام 1991، واشتملت هذه التحديثات على تقليص موسم الصيد وتحديد أقل حجم لصيد "الصفيلح" بـ 9 سم للصدفة. وأدى ذلك إلى استقرار الإنتاج عند ما يقارب الـ 50 طنا في الموسم الواحد لفترةٍ طويلة إلا أن استمرار انخفاض معدل تواجد الصفيلح في المتر المربع الواحد، وارتفاع صيد الأحجام الصغيرة مع تزايد أعداد الغواصين أدى إلى اتخاذ قرارٍ بغلق موسم الصيد لثلاثة مواسم متتالية خلال الفترة من عام 2008 وحتى 2010 بهدف إراحة المصائد وإعطائها الفرصة لإعادة بناء المخزون مع تقديم الدعم المالي والتعويض للغواصين أثناء سنوات الحظر، كما يؤكد مدير عام الثروة السمكية بمحافظة ظفار.
وأدت تجاوزات صيد الأحجام الصغيرة، والتي شكلت النسبة الأكبر في إنتاج الغواصين خلال السنوات الأخيرة نتيجة انعدام الأحجام الكبيرة إلى انخفاض الأسعار وتدني سعر الكيلو وبالتالي فقدان القيمة السوقية العالية لهذا المنتج، وفقا للدكتور علوي، والذي لفت إلى أنه يتم تعويض الغواصين خلال إغلاق المواسم أمامهم، وهو ما يؤكد عليه مدير مركز البحوث السمكية بمحافظة ظفار، مشيرا إلى أن الدراسات والمسوح الميدانية المنفذة من قبل مركز البحوث السمكية أوصت بضرورة تعاون الأهالي بالضوابط والأحكام المنظمة لصيد الصفيلح، والارتقاء بمستوى الوعي الثقافي في طريقة التعامل مع صغاره، والحفاظ على البيئة التي يعيش ويتكاثر فيها، والالتزام بصيده خلال فترة الموسم المحددة، مؤكدا بأن هذه الخطوات كفيلة بحماية هذا الكائن الذي تنفرد بها السواحل الجنوبية من سلطنة عمان.