فجأة قرر المذيع باسم يوسف، بعد عامين ونصف العام من الجدل، الرد على منتقديه عبر رسالة مطولة نشرها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك". الرسالة التي تجاوزت 2000 كلمة ركزت بشكل أساسي على ما أثير حول استهزائه بمذبحة رابعة في برنامجه الساخر، نافيا أن يكون مخطئا في أي شيء، مع وصلة هجوم ضد منتقديه. لكن الأزمة أعمق بكثير من مجرد مقطع "بعد الثورة جالنا رئيس" الغنائي، كما توثّق السطور التالية.
عودة الاستقطاب
جاءت الرسالة في توقيت غريب، كثرت فيه الانتقادات ضد السيسي ونظامه واتجه معارضوه إلى التوحد حول قضية تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير ونسيان خلافاتهم، لكن باسم أعاد فتح الجروح القديمة، وشهدت التعليقات لديه معركة بين مؤيديه ومعارضيه أعادت أجواء الاستقطاب إلى السطح مرة أخرى بعد أن تراجعت خلال الأشهر الماضية.
بداية اعتبر باسم أن كل من ينتقده أو يهاجمه "إخوان"، وهو أسلوب يتطابق مع ما يقوم به نظام السيسي من اعتبار كل من يعارضه إخوان أو إرهابي أو خائن. أما بخصوص مضمون الرسالة نفسها، فقد بدأها باسم بتجميع أهم الانتقادات التي أخذت على التيار الإسلامي ونسبها للإخوان فقط، رغم أن جزءا منها قام به سلفيون، وخاصة المنتمون إلى حزب النور السلفي، (الذي شارك في الانقلاب مع القوى المدنية)، إذ إن هتاف "يا مشير أنت الأمير" والتصفيق لمصطفى بكري في مجلس الشعب واتهام المتظاهرين في محمد محمود بأنهم بلطجية ومدمنون، وإطلاق عنوان "غزوة الصناديق" على استفتاء مارس/ آذار وتصريحات عاصم عبد الماجد وما قاله المذيع خالد عبد الله حول "إيه اللي وداها هناك"، كلها أمور لم يقم بها الإخوان، وإن كان هذا لا يعفيهم من مسؤولياتهم الأدبية في مواجهتها وعدم السكوت عنها، إرضاءً لحليفهم السابق، وهو ما دفعوا ثمنه بعد مشاركة حزب النور في انقلاب الثالث من يوليو/ تموز.
إيه اللي وداهم هناك؟
اللافت أن باسم تجاهل الرد على ما كتبه على تويتر يوم 5 يوليو/ تموز 2013، بعد مقتل 5 متظاهرين من معارضي الانقلاب أمام دار الحرس الجمهوري، إذ قال وقتها في تغريدة باللغة الإنجليزية إن قيادات الإخوان يرسلون شبابهم للموت أمام مقرات الجيش ليحولوا أنفسهم إلى ضحايا. وأن دماءهم التي أسيلت هدفها الدعاية، مختتما التغريدة بهاشتاغ "ليس انقلابا"، وهي جملة لا تختلف في شيء عن "إيه اللي وداها هناك".
حفلت مقالات باسم يوسف في صحيفة "الشروق" بكلام من هذه النوعية، فقد اتهم الإخوان في إحدى هذه المقالات بتعمّد أداء الصلاة في رمسيس حتى تأتي الشرطة وتقوم بتفريقهم لكسب التعاطف معهم.
وفي مقال "جماعة شرارة" ، يكرر باسم اتهامه للجماعة بالمتاجرة بالدم والتهليل مع كل مجزرة تحدث في صفوفهم. وفي مقال "خراب وطن عند قوم فوائد" ، أعرب باسم أكثر من مرة عن استيائه الشديد لأعداد القتلى والمعتقلين الذين يسقطون منذ عزل مرسي، لكن السبب الرئيسي لذلك الاستياء ليس حرصه على حياة هؤلاء، وإنما لأن هذه الانتهاكات "ستعيد التعاطف مرة أخرى مع الإخوان"، بالإضافة إلى "تشويه صورة مصر في الخارج". كما اعتبر أن خراب الوطن سيستفيد منه الإخوان لأنهم سيعتبرون ذلك نصرا من الله.
الاجتزاء والسياق
أما عن المقطع ذاته، فقد دعا باسم إلى ضرورة النظر إلى "السياق" وعدم الاجتزاء، متهما منتقديه بأنهم لم يشاهدوا الأغنية أو الحلقة بل شاهدوا جزءا منها فقط، لأن الأغنية تم بثها بعد شهرين ونصف الشهر من المذبحة، لكنه تجاهل أن الحلقة تم بثها بعد أيام قليلة من مذبحة 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2013 التي راح ضحيتها أكثر من 50 قتيلا. كما أن مرور شهرين على مذبحة بحجم رابعة لم يكن ليغيّر شيئا من حقيقة كونها أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث، حسب تعبير منظمة "هيومان رايتس ووتش".
الاجتزاء الذي يشتكي منه باسم كان يستخدمه بكثافة في برنامجه، كما استخدمه في رسالته، عندما ادعى أن سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب السابق قال إن الداخلية لم تستخدم الخرطوش ضد المتظاهرين، والحقيقة أن الكتاتني قال إن وزير الداخلية أخبره بذلك فقط، وأنه ينتظر تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها لتوضيح حقيقة الأمر، لتأتي اللجنة وتدين وزارة الداخلية وتثبت مقتل متظاهرين بطلقات الخرطوش.
المناحة
ولأن البرنامج "ساخر"، وفقا لباسم، فقد قرر ألا يقوم بعمل "مناحة" على الضحايا، حسب تعبيره، متناسيا أنه قام بعمل هذه "المناحة" مرتين: الأولى بعد مذبحة ستاد بورسعيد التي راح ضحيتها 72 من مشجعي النادي الأهلي في فبراير/ شباط 2012، ووقتها ظهر باسم في مقطع فيديو على يوتيوب دامع العينين، قائلا إنه لا يستطيع صناعة برنامج ساخر في الوقت الذي تشهد فيه البلاد أحداثا مثل هذه، وأعلن عن تأجيل حلقات برنامجه خلال الفترة القادمة لاستيعاب ما حدث.
وبعد الذكرى الثانية لثورة يناير عام 2013، تحدث باسم في الحلقة التالية عن الصعوبات التي واجهها فريق عمله في الخروج بحلقة وسط الاضطرابات التي تمر بها البلاد، وجاءت الحلقة بدون جمهور على المسرح احتراما لمشاعر المصريين.
اختتم باسم تلك الفقرة بوصف كل من يصمم على انتقاده بعد ذلك بأنه "مريض" لأنه لم يفهم الرسالة التي كان يريد توصيلها، وهو أمر يحسب عليه، لأن الإعلامي من المفترض أن يكون متأكدا من وضوح رسالته بالقدر الكافي، وإذا حدث "تشويش" في تلك الرسالة فيجب أن يتوجه إليه اللوم، خاصة مع مسألة شائكة مثل مذبحة رابعة.
باقي المقطع
ركز باسم دفاعه عن نفسه في المقطع الغنائي، في الحديث حول جملة واحدة منها، ألا وهي "السيسي طلع بيان.. قرر يفشخ الإخوان"، لكنه تجاهل أن الأغنية حفلت بمقاطع أخرى مثيرة للجدل، مثل "والسيسي لعبها صح.. والإخوان ابتدوا بالدح"، الذي يلمح إلى تحميل المسؤولية للإخوان عن المجازر لأنهم كانوا البادئين، إذ يحيل المقطع إلى مثل شعبي مصري شهير يحمل المعنى نفسه.
في حوار صحافي، قال باسم إنه ليس من الشهامة الهجوم على الرئيس المخلوع حسني مبارك وأولاده، مؤكدا أنه لم يهاجم الإخوان بعد أن تركوا السلطة، رغم أن الأغنية نفسها سخرت من الإخوان ومرسي وهاجمتهم بقسوة، واصفة مرسي بـ"الغبي" و"الكذاب". كما سخرت أيضا من القبض على مرشد جماعة الإخوان ونائبه، بالإضافة إلى الداعية "صفوت حجازي" الذي ركزت عليه الأغنية بسبب محاولته تغيير ملامح وجهه أثناء محاولته الهروب، وقالت إنه كان ينقص أن يرتدي "باروكة".
ترويج الشائعات
كرر باسم في رسالته شائعة أن المعتصمين في رابعة كانوا ينادون بتدخل الولايات المتحدة، وكان قد روج الشائعة نفسها في مقاله بصحيفة الشروق عندما قال إن المعتصمين هللوا لخبر أذاعته منصة الاعتصام عن توجه سفينتين حربيتين أميركيتين إلى المياه الإقليمية المصرية، وأنهم هتفوا "يا أمريكا حررينا"، في تحريض صريح ضد معارضي الانقلاب واتهامهم بالخيانة، رغم أن ذلك لم يحدث.
لم تكن هذه المرة الأولى التي روج فيها باسم شائعات، فقد وقع في فخ الدعاية السياسية ضد نظام مرسي، فأثناء عهد الأخير نشر الإعلام المصري شائعات عن قيام بيع أجزاء من البلاد إلى دول أجنبية، كان منها بيع قناة السويس ومنطقة "ماسبيرو" والآثار المصرية لدولة قطر. وهي شائعات استسلم لها باسم يوسف وقام بعمل أوبريت غنائي بعنوان "قطري حبيبي"، اعتمد على تلك الأكاذيب وتعامل معها باعتبارها حقائق، وهو ما ساهم في ترسيخها في وعي الجمهور.
التحالف مع الثورة المضادة
جاءت رسالة باسم في سياق اتهامات أوسع وجهها تجاه الإخوان والإسلاميين، (على اعتبار أنهم التيار الوحيد الذي ينتقده)، بأنهم تحالفوا مع الجيش بعد الثورة.
عمل باسم يوسف عقب الثورة في قناة "أون تي في" المملوكة لنجيب ساويرس، رجل الأعمال الذي بكى حزنا على مبارك أثناء الثورة ويدعم نظام السيسي حاليا. وبعدها انتقل إلى قناة أشد عداوة للثورة، هي "سي بي سي"، التي يمتلكها محمد الأمين، أحد كبار المرتبطين بنظام مبارك، لدرجة أن باسم نفسه وصف القناة بأنها "قناة فلول"، لكنه بالطبع لم يحمل نفسه أي مسؤولية لأنه تعاقد مع مثل هذه القناة. كما دعا صراحة إلى النزول في مظاهرات 30 يونيو/ حزيران رغم أن الجميع كان يعرف أن "الفلول" ورجال نظام مبارك سيشاركون فيها.
"لست أنا من قام بتعيين السيسي وزيرا للدفاع"، قالها باسم في رسالته ساخرا من الإخوان ومرسي وثقتهم في السيسي. لكن الغريب أنه كانت لديه الآراء نفسها تجاه السيسي بعد 8 أشهر كاملة من الانقلاب، عندما دعا إلى بقاء السيسي قائدا للجيش وعدم ترشحه للرئاسة، لأن "الجيش يحتاجه"، ولأن السيسي "أكد أنه لا يطمع في شيء"، على حد تعبير باسم، الذي قالها بنبرة لا توحي بأي شك في السيسي.
إذن، لم يجد باسم مشكلة في العمل مع الفلول والثورة المضادة والتحالف معهم ضد مرسي، ولم يجد مشكلة في السيسي بعد مذابح الانقلاب ولم يكن لديه أي مانع في بقائه وزيرا للدفاع، لكنه بعد كل ذلك يقول إنه ليس مسؤولا عن ذلك لأنه "مجرد إعلامي ساخر".
مناضل سياسي أم فنان ساخر؟
لكن هل هو مجرد "إعلامي ساخر"؟ المتابع لتصريحات باسم يجدها حافلة بالتناقضات، فهو حين يسافر إلى الخارج ليعرض تجربته الإعلامية، يسهب في الحديث عن "دور البرامج الساخرة في فضح الأنظمة القمعية"، مثلما فعل في مؤتمر "Keynote Address" التابع لمنتدى أوسلو للدفاع عن الحريات عام 2014، وفي غيرها من الفعاليات، لكنه يسحب كلامه عند أول انتقاد أو تساؤل عن عدم حديثه عن الفظائع التي يرتكبها النظام، ويؤكد أنه "مجرد برنامج ساخر وهزلي"، وأنه ليس سياسيا أو مناضلا أو ثوريا، ولا يجب أن نحمّله أكثر ممّا يطيق أو حتى يطلب منه أحد اتخاذ أي موقف أو تحميله مسؤولية أي أخطاء، "من يخاف من برنامج ساخر فهو ضعيف"، تلك هي رسالة باسم التي يقوم بتصديرها دائما في وجه مخالفيه.
السكوت
أسباب أخرى يعددها معارضو باسم تجعلهم يكرهونه، وهي تقبّله لوقف برنامجه في هدوء لا يناسب الصخب الذي مارسه في عهد مرسي عندما تم استدعاؤه فقط لمكتب النائب العام. وحتى بعد مغادرته مصر واستقراره في الولايات المتحدة، لم يستغل شهرته الدولية في فضح انتهاكات حقوق الإنسان من قبل النظام، ولم يبدأ في الهجوم على السيسي بشكل صريح إلا خلال الأسابيع الماضية فقط عندما اعتقل أفراد من المحسوبين على التيار المدني ومن الدائرة القريبة منه، وهو ما جعل البعض يقارن بين رد فعله الحالي وموقفه السلبي من المذابح التي تعرّض لها الإسلاميون منذ الانقلاب.
كان بإمكان باسم أن يقوم بتصوير حلقات ونشرها على يوتيوب، أي العودة إلى الشكل الأول للبرنامج، هكذا يقول منتقدوه. وفي الحقيقة كان هذا الخيار موجودا دائما أمام باسم، لكنه لم يقم بتنفيذه، فهو يدرك جيدا الفارق بين برنامج على يوتيوب، لن يحصل في أحسن الأحوال إلا على قدر ضئيل من الأموال لا تقارن بإذاعة البرنامج على قناة تلفزيونية. ويمكن القول إن الربح أصبح هو المتحكّم الأول في العملية برمتها.
العناد
يقول أنصار باسم يوسف (عن حق)، إن أي أخطاء له لا تتساوى بأي حال من الأحوال مع أخطاء مرسي والإخوان، فباسم مجرد شخص لم يتولَّ أي منصب رسمي ولم تكن لديه أي سلطة، بعكس الإخوان الذين كانوا يحكمون البلاد بالرئاسة والبرلمان. لكن قولهم هذا يصطدم بحقيقة أن باسم لم يعترف أصلا بأي خطأ قد يكون قد وقع فيه، إذ لا يريد التراجع عن مواقفه ويصر أنه كان على حق طوال الوقت. وهو عناد يتشابه مع رد فعله عند اتهامه بسرقة مقال، عندها ادعى أنه نسي كتابة المصادر، لكن بعد الهجوم عليه عاد واعتذر مقرا بخطئه.
القمع للجميع
لم يمر على هذه الرسالة يومين إلا وأعاد نظام السيسي تذكير الجميع بأن "القمع للجميع"، وأنه لا يفرّق بين تيار وآخر في التنكيل به، إذ صدرت أحكام بالسجن لمدد تراوح بين عامين و5 أعوام على متظاهري يوم 25 إبريل/ نيسان الذين خرجوا اعتراضا على التنازل عن جزيرتي "تيران" و"صنافير". كما حمل اليومان التاليان اعتذارا من الكاتب "تامر أبو عرب" عن بعض مواقفه السابقة، وهو ما قد يفتح الباب أمام عودة الجميع إلى رشدهم من جديد والالتفات إلى العدو الحقيقي لثورة يناير.