ضبط العلاقات المدنية العسكرية داخل المجتمعات التي تسعى نحو الديمقراطية وبناء دولة القانون والمؤسسات، رحلة شاقة لا تسير في خط مستقيم، وإنما هي مسار تنجح فيه الأمم بالدرجات والنسب؛ فهناك مجتمعات تفوقت فى هذا الجانب بنسب عالية، وهناك شعوب أخرى ما زالت تسعى على الطريق، واليوم نستعرض التجربة الأميركية في كيفية إخضاع الجهاز العسكري للسلطة المدنية، وتندرج التجربة الأميركية تحت مظلة تجارب التأسيس الواعي والمُدرك لدور القوات المسلحة، ابتداءً مما قبل التشكّل والتكوين، ولا تأتي في إطار تجارب الترويض والاحتواء للجيوش التي تأسست من دون نصوص دستورية ضابطة، ولا سياسات قانونية واضحة، كما هي حال تجارب تأسيس الجيوش العربية الحديثة.
عبر ثماني خطوات مركزية نجحت أميركا في فرض السيطرة المدنية على جيشها، وفق التالي:
أولاً: الأباء المؤسسون لدستور الولايات المتحدة الأميركية بحكم ثقافتهم الأوروبية، كانوا على وعي تام بالتجربة البريطانية التي تؤكد ضرورة خضوع الجيش للسلطة المدنية، حتى لا يكرروا تجربة كرومويل فى أربعينيات القرن السابع عشر، عندما استُخدم الجيش البريطاني لقمع المعارضة السياسية في الداخل، وهذا أثّرعلى فلسفة وروح كتابة وثيقة الدستور في نظرته إلى دور الجيش.
ثانياً: اعتراف المؤسسين بضرورة وجود جيش دائم لتأمين البلاد، لكنهم آمنوا بوجوب اتخاذ الحذر الشديد من أجل المحافظة على الحرية ومنع حصول حالات إساءة استعمال السلطة، فاعترف المؤسسون بأهمية وجود جيش دائم لتأمين حماية الوطن والدفاع عنه، شرحها جيمس ماديسون بقوله "إن الحماية من الخطر الأجنبي يشكل أحد الأهداف الأولية لمجتمع مدني.. (ولكن) وجود جيش دائم.. هو أمر خطر، مع أنه قد يكون في الوقت نفسه ضرورياً. فإذا كان تعداده صغيراً، فسيكون لهذا تبعاته، وإذا كان تعداده كبيراً، فقد تكون نتائجه مُهلكة؛ لذلك عالجوا هذه المُعضلة بوضع دستور يوضح مهام ووظائف القوات المسلحة بدقة، بما لا يسمح لها بتقويض الديمقراطية.
ثالثاً: تم إخضاع تكوين الجيش والإنفاق عليه وميزانيته إلى الكونغرس؛ فمسؤولية تكوين جيش والمحافظة عليه وتسديد نفقاته، خاضعة بالكامل لسلطات الكونغرس، وليس إلى السلطة التنفيذية.
رابعاً: الكونغرس صاحب السلطة الوحيدة في إعلان الحرب وليس الرئيس، إذ أدّى الفشل العسكري الأميركي في فيتنام إلى "عقدة" ما بعد فيتنام، فقد عبّر رؤساء وقادة عسكريون وأعضاء من الكونغرس، وأفراد من الشعب عن شكوكهم حول قدرة القوات العسكرية على تحقيق أهداف السياسة الأميركية بمفردها، وهذا اتضح للجميع فى معارك فيتنام، لذلك وضع الكونغرس قانون سلطات الحرب في عام 1973 رغم اعتراض الرئيس نيكسون عليه، وهدف هذا القانون هو تقييد سلطة الرئيس في إرسال قوات مسلحة إلى الخارج من دون موافقة الكونغرس.
خامساً: الرئيس المُنتخب هو القائد الأعلى للقوات الأميركية: تنص المادة المتعلقة بمنصب القائد العام للقوات المسلحة في الدستور الأميركي، على أنه بالإضافة إلى واجباته الأخرى "يكون الرئيس هو القائد العام لجيش وبحريّة الولايات المتحدة، ولقوات المليشيا التابعة للولايات المختلفة، وهذا ساهم بشكل كبير في خضوع الجيش إلى السلطة المدنية المُنتخبة.
سادساً: الدستور الأميركي يقسم السلطة العسكرية بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، لمنع سوء استخدام السلطة، وهو تقسيم يهدف إلى الحؤول دون إساءة استعمال السلطة؛ فالدستور يُثبت بوضوح أن الرئيس المدني المنتخب شعبياً هو القائد العام للقوات المسلحة، والعنصر الحاسم هنا هو أن سلطات الرئيس مقررة ومحددة ككل، وأن الكونغرس، والمحاكم الأميركية، والهيئة الانتخابية تملك سلطة كبيرة في تحديد سلطاته ومهامه، وهذا أدى بطبيعة الحال إلى قيادة تشاركية مدنية تسيطرعلى الجيش الأميركي تأتي عبر صناديق الانتخاب.
سابعاً: تم ترسيخ سياسة أن الجيش الأميركي يقوم بتنفيذ المهام الموكلة إليه من القيادة السياسية ولا يتدخل في صنع القرار السياسي، وهذا يعني أن تقوم القوات العسكرية بلعب دور إداري ولا تقوم بصنع التوجه السياسي والإستراتيجي، ولذلك رفض إيزنهاور الإدلاء بصوته في الانتخابات الأميركية عندما كان قائداً للقوات الحليفة في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، ترسيخاً لمبدأ عدم جواز تأثّر القرارات العسكرية على القرارات السياسية.
ثامناً: إحلال قيادات عسكرية شابة محل القيادات العسكرية القديمة، تؤمن بثقافة وجوب خضوع المجهود الحربي للقرار السياسي، ويعتبر العديد من الخبراء أن تلك المهمة صعبة، لكنها ضرورية إذا كان المطلوب وضع القوات العسكرية تحت السيطرة المدنية الكاملة، وقد يتطلب هذا التغيير الكثير من الوقت والتعليم والحسم، فاستبدال القادة المخضرمين الذين لا يثقون بالقادة المدنيين بقادة جدد يرغبون في العمل لمصلحة القيادة المدنية، يعد أمراً إستراتيجياً يؤمن مستقبل العلاقة المدنية العسكرية داخل الولايات المتحدة الأميركية.
يتضح من النقاط الثماني السابقة أن بناء دول ديمقراطية تقوم على الفصل بين السلطات وتطبيق القانون، وسيادة العدالة أمر يتطلب وعياً كبيراً من النخبة السياسية المدنية والعسكرية، ويحتاج في الوقت ذاته إلى مسار زمني يتم فيه تصويب الأخطاء التي تظهر مع الأحداث والوقائع لسد الثغرات التي أمام قوى الهمينة والاستبداد العسكري داخل المجتمع.