بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها في ساحات الحرم المكي الشريف، بعد ثلاثة أيام من حادثة سقوط رافعة بناء في الحرم المكي، راح ضحيتها 107 حجاج، إذ عادت جنبات المسجد الحرام تعج بالمصلين مجددا، عدا 50 متراً تحيط بمكان الحادثة.
"كل شيء يبدو طبيعيا في المكان، الحجاج يصلون، ويقرؤون القرآن، ويطوفون بالمسجد الحرام"، يقول الإعلامي سعيد الزهراني، قبل أن يوضح أنه حضر في اليوم التالي للصلاة في المسجد ولمعرفة آثار الدمار التي حدثت، ولكنه فوجئ بأن الوضع كان طبيعيا، ويتابع لـ"العربي الجديد":"لو لم أطلع على الأخبار، ولو لم أكن أعرف الحرم المكي جيدا، وأعرف مكان الرافعة، لقلت إن كل ما قيل كذب. الوضع في المسجد الحرام كعادته، الشيء المختلف هو أن كثيرون يتناقشون بين الصلوات حول ما حدث، ومن شاهد الحادثة ينقل ما شاهده للحجاج الذين وصلوا أخيراً".
ما بين فترات الصلاة والاستغفار، يتناقش الحجاج، حول ما حدث، الكل يحاول طرح فرضيته حول الأسباب التي أدت إلى الحادثة، ويتساءلون عن فحوى التقرير الذي سلمته إماره مكة لولي العهد، فعلى الرغم من أن هذا التقرير كان سريا، إلا أن الجميع يحاول توقع ما كُتب فيه، يضيف الزهراني :"كل النقاش يدور حول ثلاثة أمور، هل هو بسبب أعمال الحفر، أم الرياح الشديدة التي هبت على مكة يومها، أم خطأ بشري".
يتفق ثلاثة خبراء تحدثوا إلى "العربي الجديد" مع هذه الاحتمالات، مستبعدين أن يكون هناك سبب رابع.
اقرأ أيضا: أسماك السعودية.. أسعار مرتفعة وأزمة صيد
ناطحات السحاب حول الحرم
يؤكد الأستاذ المشارك بقسم الجغرافيا في جامعة القصيم، الدكتور عبدالله المسند على أن ناطحات السحاب المحيطة بالحرم المكي، ساهمت في شدة الرياح، وربما لها دور في ما حدث بعد أن قامت بدور الجبال في زيادة قوة الرياح، نافيا أن يكون سقوط الرافعة بسبب الصواعق كما اعتقد بعضهم، ويضيف لـ"العربي الجديد":"من خلال مشاهدة عدة مقاطع مصورة في الحرم وخارج الحرم بالقرب من الرافعة، تبين لي أن سقوط الرافعة لم يكن بسبب صاعقة كما قيل، والمقاطع المصورة توضح ذلك".
يشدد الدكتور المسند على أن بعضهم قد يظن أن تغيير طبوغرافية مكة عبر إزالة بعض الجبال جراء النشاط العمراني الذي تشهده مكة المكرمة أثر سلباً على عناصر المناخ، ولكن الصحيح أن عناصر المناخ تكون في المناطق الجبلية أشد عنفاً، خاصة الرياح و(كثافة) الأمطار تكون هي أيضاً أشد (عادة) من المناطق المنبسطة، ويضيف: "جدلاً، لو أزلنا جبال مكة كلية وجعلناها منبسطة سهلة، لأدى هذا إلى أن تخف شدة الرياح، وتقل كثافة الأمطار، ولربما انخفضت درجة الحرارة أيضاً، وعليه أقول إن الجبال عادة تُحاصر الرياح، وتكدسها عبر منافذ (أودية) ضيقة؛ فيزيد اندفاعها، وتزيد سرعتها مقارنة بالمناطق المنبسطة، وهذا ما يقع في أودية مكة المعمورة والمسكونة".
ويعتبر الدكتور المسند أن ما زاد في شدة الرياح بمكة، هو عامل بشري متمثل بناطحات السحاب التي تقوم بدور الجبال في مناطحة الرياح وتجميعها، وضغطها ثم دفعها إلى الأسفل بشدة وقوة، لذا نُشاهد في بعض ناطحات السحاب في مدن أخرى كاسرات الرياح، التي تركب قريباً من الأدوار السفلى؛ لتمنع وصول الرياح الهابطة من العلو إلى الأسفل حفاظاً على من يقف حول المبنى، لذا نجد أن الرياح الهابطة يوم الجمعة 11 سبتمبر/أيلول الماضي تضاعفت تحت أبراج الساعة المطلة على الحرم المكي، حتى دفعت بالبشر والحاويات وغيرها بسرعة هبوب قاربت الـ 100 كلم في الساعة".
ويعتقد الدكتور المسند أن الحل لتلافي حوادث مشابهة مستقبلا، خاصة مع تضاعف التحدي البيئي المناخي في ظل وجود جبال شامخة، وأودية تعج بالمباني العالية، وفي ظل تغيرات مناخية عالمية، وأبراج سكنية، يكمن في التسلح بالعلم، والتقنية المتوفرة، في متابعة الظواهر المناخية، والعواصف الرعدية للتحذير المبكر، ويضيف:"أيضا يجب أن يدخل عامل المناخ كعنصر أساس في كل مشاريع التنمية في مكة المكرمة بشكل خاص وغيرها بشكل عام، ويؤخذ المناخ كلاعب رئيس في حياتنا وإلا لا تلوموا إلا تقصيركم وجهلكم".
اقرأ أيضا: نقص الأسرّة في مشافي السعودية.. الموعد بعد عام!
رياح غير متوقعة
تعرضت مكة في 11 سبتمبر/أيلول الجاري إلى رياح عاتية لم تعتدها، إذ أظهرت مقاطع فيديو الرياح وهي تقذف بالبشر، ويؤكد المتحدث الرسمي للأرصاد الجوية حسين القحطاني، لـ"العربي الجديد" أن سرعة الرياح يومها وصلت إلى 80 كلم/الساعة، وهي سرعة عالية لم تعتدها مكة.
على النسق ذاته، يؤكد الخبير المناخي وعضو الاتحاد العربي لعلوم الفلك والفضاء الدكتور خالد الزعاق، أن مكة المكرمة تعرضت إلى اضطرابات مناخية بسبب الحالة المطرية المعاشة والتي نتجت عن الدورات المناخية الصغرى.
ويتابع لـ"العربي الجديد":"الرياح في مكة المكرمة أمر متكرر خلال فترة الخريف، لأن موقع السعودية مكان لخطوط الالتقاء الضغطية"، ويشدد الزعاق على أن الحالات المطرية بكّرت في المناطق الغربية من السعودية، بسبب ارتفاع حرارة بحر العرب الذي زاد عن معدله الطبيعي فنتج عنه زيادة في نسبة البخر، وحملتها الرياح الجنوبية إبان بداية انطلاقها في أواخر شهر أغسطس/آب فتلاقت مع طبقات الجو العليا الباردة فحولتها إلى سحب ركامية.
ويضيف:"نتيجة ذلك تشكل كف منخفض، وكف مرتفع، وبينهما فارق ضغطي مهول، فكانت رياح عاتية على مكة المكرمة للفارق الحراري قبيل المغرب"، هذه الرياح الشديدة قد تقلب رافعة ضخمة يزيد طولها على 40 مترا، كما هو الحال في رافعة الحرم.
اقرأ أيضا: الغرباء في الدار.. هكذا واجه الصحويون دخول السعوديات الإنترنت
خطأ بشري
يشدد مهندسون مختصون على أن رافعة مثل تلك التي تعمل في مكة، تحتاج لمواصفات خاصة حتى يُضمن عدم سقوطها، وفي الاتجاه ذاته يذهب محللون، منهم المحلل حمد الجعيد الذي أكد لـ"العربي الجديد" أن ما حدث لم يكن نتيجة الرياح فقط، وتساءل:"لو كان كذلك، لماذا لم تسقط بقية الرافعات الخمس عشرة الموجودة في المنطقة".
ويؤكد الخبير الهندسي واستشاري التحكيم المهندس سعود الدلبحي، ما ذهب إليه الجعيد، ويشدد على أن لسقوط الرافعات سببان أساسيان، الأول يعود إلى عيب في تصنيعها، والثاني عيب في التشغيل، كأن يكون هناك خطأ يتعلق بعملية الإيقاف وزوايا الانحناء وعلاقة الزاوية بوضعية الرافعة وقت سقوطها.
ويضيف لـ"العربي الجديد":"مثل هذه الرافعات تتأثر بالرياح نظرًا للارتفاعات العالية التي تصل إليها، لهذا لا بد أن تثبت عندما تكون في وضع التشغيل بأربعة أثقال، في كل جهة بما يزن ألف طن من المواد".
ويضيف:"عادة تثبت هذه الأحمال الرافعة أثناء عملية التشغيل وعملية الوقوف العادي، وأعتقد أنه عندما حركت الرافعة من وضعها التشغيلي إلى التخزيني نسوا أن يضعوا الأحمال التي تثبتها لعدم الحاجة لتشغيلها، مما أدى إلى تأثرها بالرياح"، ويشير المهندس الدلبحي إلى أن الرافعة وقت الحادث كانت في وضع توقف تام، ويتساءل:"هل الإجراءات الاحترازية كانت متبعة؟"، يضيف في محاولة للإجابة على السؤال:"الواضح أن هنالك خطأ في عملية إجراءات السلامة أثناء الإيقاف، وأعتقد أن اللجنة ستكشف عن مثل هذه الإجراءات".
ويستبعد المهندس الدلبحي أن يكون هناك عيب في التصنيع، لكون هذه العيوب تظهر عادة عند التشغيل، ويضيف:"أعتقد أن السبب هو عدم اتباع الأسلوب الوقائي والاحترازي لعملية الإيقاف".