يشعر رمضان عامر نائب رئيس اللجنة الإدارية بنقابة العاملين في مصنع "سنمار"، بالخوف على حياته هو وزملائه الذين يصل عددهم إلى 2062 عاملا في المصنع المتخصص في إنتاج الكيماويات والبتروكيماويات، إذ أصيب 150 عاملا، بأمراض خطرة خلال مدة لا تزيد عن عام ونصف العام، من بينها السرطان وتكسر كريات الدم، والتهابات مزمنة في الرئة، بالإضافة إلى حالات تسمم واختناق ونزلات شعبية حادة، جراء تسرب غازات سامة أثناء عملية الإنتاج.
غضب عامر وزملائه، ليس بسبب الخوف على حياتهم فقط، كما يقول بينما تعلو نبرات صوته، إذ إن ذوي العمال وأسرهم وكل من يقطن في محافظة بورسعيد باتوا في مرمى الخطر بسبب رفض المصنع تطبيق معايير الأمن والسلامة.
وتأسس مصنع "سنمار" في عام 2002 بواسطة شركة "تراست"، المملوكة لرجل الأعمال إسماعيل محمد إسماعيل، وتخصص في المنتجات الكيماوية، إلى أن جرى بيع المصنع لمستثمر هندي في عام 2007، وتم تحويل نشاطه الأساسي لإنتاج البتروكيماويات إلى جانب الكيماويات، وتغيير اسمه إلى "تي سي آي سنمار"، ويبلغ عدد العمالة الدائمة في المصنع 462 عاملا، إضافة إلى 1600 عامل مؤقت غير معينين بشكل دائم، وفق ما أكده عامر.
ويعاني العاملون في المصنع من مشاكل ناتجة عن تردي الصيانة وتردي حالة الأمان الصناعي منذ عام 2011، وهو ما دفع اللجنة النقابية إلى حصر نقاط الخلل في المصنع ورفعها للإدارة الهندية التي وإن كانت بطيئة الاستجابة والتنفيذ، إلا أنها تستجيب للمطلوب، بحسب ما قاله هشام طه، مسؤول السلامة والصحة المهنية وعضو نقابة العاملين في المصنع، والذي تابع موضحا أن الوضع استمر على هذا الحال حتى بداية عام 2016، إذ قرر ممثل الشركة الهندية مالكة المصنع تسليم الإدارة إلى قيادات مصرية، على رأسهم اللواء مدحت كمال الدين حمص مدير أمن المصنع، الذي سبق له العمل في جهاز أمن الدولة"، وتداخل رمضان عامر مكملا حديث زميله بالقول "منذ هذه اللحظة بدأ الصدام بين العمال والإدارة في ظل تجاهل الإدارة لمخاطر بيئة العمل على العمال، حتى ساءت الأمور إلى درجة كبيرة وتحول المكان إلى ما يمكن وصفه بـ"مصنع الموت".
توثيق مخالفات المصنع
حصل "العربي الجديد" على ملف موثق يضم مستندات وصورا ومقاطع مصورة، لمصنع "سنمار" الموجود في المنطقة الصناعية جنوب مدينة بورسعيد، ويكشف الملف عن كوارث تسببت في وفاة وإصابة عاملين بالمصنع نتيجة تسريبات غازية سامة وانفجارات متكررة تسببت في تشوّه 9 عمال.
وتسبب المصنع في تدمير البيئة والحياة المائية والثروة السمكية في بحيرة المنزلة وقناة السويس، التي يصرف فيها مخلفاته شديدة السميّة، الأمر الذي دعا الأهالي إلى وصفه بـ "مصنع الموت" بحسب ما جاء في الملف، الذي تؤكد مصادر "العربي الجديد" وجوده على مكتب مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن الوطني "أمن الدولة"، وهو ما يعد آخر إجراء احترازيا اتخذه المتضررون من المصنع في 28 مايو/أيار الماضي، لمواجهة الإدارة التي يمثلها المهندس شريف المنوفي الرئيس التنفيذي للمصنع، ونادر عدلي رئيس قطاع الموارد البشرية والشؤون الإدارية، واللواء مدحت كمال الدين حمص مدير أمن المصنع، الذي يعد أحد أباطرة الجهاز الأمني في عصر الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.
وقدم الملف المحامون أسامة رمضان الجوهري، ومحمد ناصف، ومحمد عبد الخالق، بصفتهم وكلاء عن نقابة العمال بالمصنع الذين مثلهم النقابي رمضان محمد عامر، وحذر المحامون في ملفهم من تفجر الأوضاع ووقوع كارثة كبرى وصدام وشيك بين العمال وإدارة المصنع، مطالبين بتدخل الجهاز الأمني.
وسبق أن تقدم العاملون بالمصنع بشكاوى وبلاغات عديدة إلى رئيس مجلس الوزراء، والأمانة العامة للمجلس، ووزير الصناعة، ورئيس مجلس النواب، ومدير أمن بورسعيد، ومحافظ بورسعيد، والنيابة العامة، وكافة الجهات والأجهزة الأمنية والرقابية المختصة بمتابعة العمل في المصنع، إلا أن الأمر لم يثمر عن شيء بسبب نفوذ وعلاقات مجلس الإدارة بالأجهزة الأمنية والمسؤولين، وفق ما أكده المحامي الجوهري في إفادته لـ"العربي الجديد".
14 حادثة خطيرة
تعنت الإدارة وصمِّ آذانها عن سماع أي شكوى أو تحذير من الخطر الداهم الذي يلاحق العمال، أدى إلى حدوث 14 حادثة خطرة في المصنع، بسبب إهمال الصيانة ومعايير الأمان وعدم وجود حد أدنى من وسائل الوقاية من المخاطر، وفق ما أكده العاملون، ووثق معد التحقيق عددا من الحواث عبر محاضر رسمية وشكاوى ومذكرات تضمنها الملف المرسل إلى مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن الوطني منها ما جرى في بداية يونيو/ حزيران 2016، بعد أن حذر العمال إدارة الشركة في مذكرة رسمية من كارثة محتملة لعدم صيانة وفحص أحواض المحولات الكهربائية، وهو ما تجاهلته الإدارة على الرغم من تحذير الشركة القومية للكهرباء إدارة المصنع من خطورة تجاهل صيانة المحولات في 22 يونيو 2016، وبالفعل لم تمر أيام قليلة حتى وقع انفجار مهول في محولات الكهرباء.
وفي 10 يوليو/ تموز 2016 تقدم العمال بمذكرة أخرى مطالبين الإدارة بإصلاح خطوط الإنتاج، لكن بسبب إهمال الإدارة وقعت كارثة أخرى، إذ حدث انفجار هائل أدى إلى وفاة العامل محمد البلايسي، وإصابة ثلاثة آخرين بجروح خطرة، كما تسربت كميات كبيرة من الغاز السام في 24 يوليو 2016.
وشهد شهر أغسطس/ آب عام 2016، حالات عديدة من المشاكل في المبرد الرئيسي وتسرب حمض "الهيدروليك" على أرضية المصنع، وانبعاث رائحة غاز "إل أي دي سي" السام، وفي مطلع عام 2017 وتحديدا في 1 يناير/ كانون الثاني، وقع انفجار هائل تسبب في إصابة 8 من العمال بإصابات خطرة تسببت في تشوهات لهم.
وفي 27 مارس/ آذار 2017 وقع تسريب غازي جديد، وبعدها بيومين تكرر الأمر، وفي 31 مارس 2017، تسبب تسريب من محبس الصرف، في تكوين بركة من مادة "الهاي بويل" أدى إلى تصاعد أبخرة سامة وعدم تمكن العاملين من الدخول إلى مكان التسريب
الذي تمت معالجته بأسلوب غير علمي من خلال استخدام "شكائر رملية" لامتصاص الغاز، تم دفنها ووضعها إلى جوار مواد قابلة للاشتعال، بالقرب من مكان يعرف بـ"محرقة" المصنع وهو يخالف معايير حماية البيئة المصرية والدولية، بالإضافة إلى تزايد خطر تسرب المواد السامة إلى التربة وتكوين غاز سام يشكل خطورة على حياة العاملين.
وفي 24 إبريل/نيسان 2017 تسربت كميات كبيرة من غاز الكلور إلى داخل المصنع في ظل نقص إسطوانات الأكسوجين المضغوط، كما انفجرت في 7 مايو/ أيار 2017 وصلة الطرد الخاصة بإحدى الطلمبات مما أدى إلى توقف المصنع وتسريب الكلور.
وفي 8 مايو 2017 تسرب غاز (vcm) المسرطن بكميات كبيرة، وفي 9 مايو 2017 وقع تسريب جديد لذات الغاز من محبس الصرف من خط السحب من خزان "الهاي بويل".
ولم تتوقف كوارث المصنع عند حدوده ، بل امتدت لتهدد مدينة بورسعيد إذ إن مخالفات المصنع السامة والمحتوية على مواد مسرطنة يتم التخلص منها في مياه بحيرة المنزلة وقناة السويس، من دون مراعاة للحياة البحرية فيهما، عبر "بيارة" الصرف الداخلي للمصنع المتصلة بالبحيرة.
وعلى بعد 185 مترا من المصنع، يجري الانتهاء من تشييد وحدات سكنية سيتم تسليمها خلال الشهرين الحالي والمقبل، مما يهدد بكارثة جديدة، إذ إن إقامة هذه الوحدات بالقرب من المصنع وضعف وسائل الأمن والسلامة الصناعيتين، سيعرضان حياة قاطني هذه الوحدات للخطر بسبب المواد السامة الناتجة عن المصنع، خاصة أن الرياح عادة ما تكون في اتجاهها.
وتنص المادة 69 من الفصل الثاني لقانون البيئة المصري على أنه يحظر على جميع المنشآت بما في ذلك المحال العامة والمنشآت التجارية والصناعية والسياحية والخدمية تصريف أو إلقاء أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث في الشواطئ المصرية أو المياه المتاخمة لها، سواء تم ذلك بطريقة إرادية أو غير إرادية مباشرة أو غير مباشرة ويعتبر كل يوم من استمرار التصريف المحظور، مخالفة منفصلة فيما ينص باب العقوبات للقانون الصادر في يناير/كانون الثاني من عام 1994 على أنه "يعاقب بغرامة لا تقل عن مائتي جنيه (11 دولارا أميركا) ولا تزيد على عشرين ألف جنيه (1100 دولار) كل من يخالف أحكام المواد 38 و41 و69 و70 من هذا القانون".
وتلزم المادة 34 من الباب الثاني لحماية البيئة الهوائية من التلوث صاحب المنشأة الصناعية باتخاذ الاحتياطات والتدابير اللازمة لعدم تسرب أو انبعاث ملوثات الهواء داخل مكان العمل إلا في الحدود المسموح بها، والتي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا القانون، سواء كانت ناتجة عن طبيعة ممارسة المنشأة لنشاطها أو عن خلل في الأجهزة، وأن يوفر سبل الحماية اللازمة للعاملين تنفيذا لشروط السلامة والصحة المهنية بما في ذلك اختيار الآلات والمعدات والمواد وأنواع الوقود المناسبة، على أن يؤخذ في الاعتبار مدة التعرض لهذه الملوثات، وعليه أن يكفل ضمان التهوية الكافية وتركيب المداخن وغيرها من وسائل تنقية الهواء، وهو ما لم يتحقق كما يؤكد النقابي عامر وهشام طه مسؤول السلامة والصحة المهنية.
وأوضحت الشكاوى أن التسريب الآمن للغازات الناتجة عن المصنع يفترض ألا يتجاوز نسبة جزء واحد في المليون، في حين أن التسريبات وصلت في بعض الأحيان إلى 1800 جزء في المليون، وهو معدل خطر للغاية، ولا يلاحظ هذا التسريب بواسطة الشم إلا عندما يصل إلى 3000 جزء في المليون، وبحسب ما أوضحه الأستاذ المساعد بقسم الطب الشرعي والسموم الإكلينيكية بجامعة بورسعيد الدكتور محمد أنور عبد اللطيف، فإن المصنع المشار إليه أصبحت سمعته سيئة خلال الفترة الأخيرة، وذلك بعد تعدد حالات الإصابة وما وقع به من أحداث في الآونة الأخيرة.
وأوضح عبد اللطيف الذي يتابع تجاوزات المصنع، أن حالات عرضت بالفعل على المستشفى الجامعي، وتم توقيع الكشف الطبي عليها، وثبت إصابتها بأمراض وإصابات واختناقات نتيجة التعرض لغازات سامة في المصنع، بسبب مادة "الهاي بويل"، وغاز "إل أي دي سي" السام، اللذين يؤدي استنشاقهما بمعدل مرتفع إلى ما يعرف بـ"التحجر الرئوي" والتسمم في الدم، والإصابة بالسرطان.
وأضاف الأستاذ المساعد بقسم طب السموم الإكلينيكية، أن تطاير هذه الغازات السامة ومخلفاتها في الهواء من دون معالجتها والتخلص الآمن منها، يهدد حياة القاطنين بالقرب من المصنع، موضحا أن مدى تأثيرها يصل إلى 50 كيلومترا وقد تزيد أو تقل حسب نسبة تسربها، مشيرا إلى أنها مواد تعرف باسم "المواد العالقة" ولا يتخلص منها الهواء بسهولة، وإنما تظل عالقة لفترات طويلة وتنتقل بالهواء، واستنشاقها يمثل أمراً في غاية الخطورة.
تجاوزات عمالية
تجاوزات الإدارة وصلت إلى رفع الغطاء الطبي والعلاجي عن العامل عصام السعيد الذي أصيب في أحد التفجيرات جراء الإهمال، وتم حجزه في مستشفى "دي لا ديلفراندا" حتى وقتنا هذا.
وعقب اجتماع ممثلي نقابة عمال المصنع مع نادر علي رئيس قطاع الموارد البشرية في المصنع، فوجئوا برد فعل سلبي لا يتناسب مع ما وقع من انفجارات نتج عنها وفيات وإصابات بين العمال وتلوث مهول، كما قامت الإدارة بفصل 3 من أعضاء النقابة في 4 مايو/ أيار 2017، هم رمضان محمد عامر نائب رئيس اللجنة الإدارية بالنقابية، وهشام السيد محمد طه مسؤول السلامة والصحة المهنية وعضو النقابة، وأيمن مدحت محمد عمر عضو النقابة وفق ما جاء في محضر إثبات الحالة الذي حرره العمال في 5 مايو/ أيار 2017 بقسم جنوب بورسعيد.
وبدأ عضو هيئة الدفاع عن العمال المحامي أسامة الجوهري، في اتخاذ إجراءات قانونية تصعيدية ضد إدارة المصنع لضمان عودة أعضاء النقابة العمالية المفصولين ظلما، وضمان عدم العبث بحقوقهم منعا لحدوث انفجار وغضب عمالي وشيك كما يقول.
لكن ماذا سيفعل الجوهري وزملاؤه إذا استمر تجاهل إدارة المصنع مطالب العاملين؟ يجيب المحامي العمالي قائلا بحزم "بالطبع العمال لديهم خطوات تصعيدية، تصل إلى الإضراب عن العمل، وتنظيم وقفات احتجاجية بعد أخْذ الموافقات الأمنية، في أماكن عديدة، حتى في القاهرة وأمام مجلس الوزراء"، وذلك لإيصال رسالتهم إلى المسؤولين إذ إن خطر المصنع امتد ليهدد جميع أبناء المحافظة.