في السابعة صباحا تستيقظ منة مصطفى من النوم، لتبدأ رحلتها إلى عملها في منطقة البورصة بوسط القاهرة، تنزل على عجل من بيتها وتستقل سيارتها مستمعة إلى أنغام فيروز أو أية إذاعة محلية.
ما هي إلا دقائق معدودة، حتى تتلاشى كل هذه التفاصيل الصباحية المفعمة بالحيوية والنشاط، وتبدأ رحلة "الأشغال الشاقة" باجتياز الحواجز المرورية والشوارع الرئيسية المغلقة، حتى تصل إلى عملها.
تسكن الفتاة التي تعمل بشركة للدعاية والإعلان، في شارع الطيران، بمدينة نصر شرق القاهرة، الشارع قريب جدا من ميدان رابعة العدوية، حيث كان اعتصام رافضي الانقلاب العسكري، قبل أن تفضه قوات الجيش والشرطة يوم 14 أغسطس/آب من العام الماضي ، ومنذ ذلك الحين وهو شبه مغلق بصفة دائمة خشية تجدد التظاهرات الداعية لإحياء ذكرى "المجزرة" التي راح ضحيتها مئات من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي .
تقول منة "الأزمة أن الحواجز الأمنية والشوارع والطرق المغلقة، غير ثابتة ويتم تغيير اتجاهات السير فيها بشكل يومي وعشوائي". يحدث هذا نتيجة الدواعي الأمنية التي تتخذها الحكومة المصرية لغلق ميدان رابعة العدوية، أو لغلق شارع النصر القريب جدا من منزل منة، والذي تقع فيه جامعة الأزهر، التي تشهد موجة من الاحتجاجات الطلابية الحاشدة هذه الأيام.
"الهروب من الشوارع الرئيسية المغلقة بالحواجز الأمنية أو حتى الأسلاك الشائكة، واللجوء للشوارع الجانبية، أمر في غاية الصعوبة"، تصف منة معاناتها اليومية في طريق الذهاب والعودة بين المنزل والعمل، مضيفة "معظم الشوارع الرئيسة في هذه المنطقة تقع فيها مبان أمنية وعسكرية مثل مبنى الأمن الوطني، والأجهزة التابعة لوزارة الدفاع بمنطقة رابعة العدوية .. أما الشوارع الجانبية فيتم إغلاقها بالأسلاك الشائكة خوفا من تسلل المتظاهرين إلى محيط هذه المباني، ما يزيد من صعوبة تجاوز هذه الشوارع بخاصة في ساعات الصباح الأولى حيث الجميع يسلك طريقه للعمل".
" في بعض الأيام أكتشف استحالة الخروج من مدينة نصر، فأعود بالسيارة إلى بيتي ولا أذهب للعمل، وفي أيام أخرى أصل إلى عملي متأخرة، كل يوم أنزل من البيت على بركة الله وأنا وحظي مع الطريق"، بحسب منة التي تستعين بوالدتها في طريق العودة لتتابع معها ما إذا كانت الشوارع مغلقة أو أن الاشتباكات مستمرة في جامعة الأزهر، وما هو "الطريق الآمن" للوصول إلى البيت.
قد تبدو تلك القصة طريفة إلى حد ما بمجرد حكيها، خاصة مع العودة لتفاصيل وذكريات قرار حظر التجوال في الأشهر القليلة التي أعقبت الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز من العام الماضي. إلا أن الواقع الفعلي يكشف حالة من الضيق والضجر الشديدين من تشديد الخناق على محافظتي القاهرة والجيزة، حيث تقع العشرات من المباني الأمنية والعسكرية والدبلوماسية، فضلا عن عشرات أقسام الشرطة المنتشرة في الأحياء السكنية.
فلم يكد المواطن المصري يفرغ من شكواه المتكررة من إغلاق الشوارع المؤدية لوزارة الداخلية بكتل حجرية ضخمة، أدت طوال الأعوام الماضية ما بعد الثورة، لتشويه الشوارع وإعاقة حركتي السير والمرور، حتى دخل في دوامة إحاطة كافة المنشآت الأمنية والعسكرية والدبلوماسية في القاهرة والجيزة، بحواجز خرسانية، قضت على حلمه بتخفيف الزحام.
في قبضة الزحام
تغلق قوات الأمن طريق "الخليفة المأمون" الواصل ما بين العباسية ومصر الجديدة، والمار مباشرة من أمام جامعة عين شمس، لعدة أيام فقط، لأن وزارة الدفاع قريبة من الجامعة، الأمر الذي يشل حركة المرور تماما في هذه المنطقة الواصلة بين أهم أحياء القاهرة "مصر الجديدة، والعباسية، ورمسيس" ومحافظة الجيزة، والأمر نفسه قد يحدث في محافظة الجيزة، عندما تقرر قوات الأمن غلق ميدان النهضة، الواقع مباشرة أمام جامعة القاهرة.
مبنى الحرس الجمهوري بطريق صلاح سالم، يتم إغلاقه أيضا بناءً على تعليمات أمنية، على الرغم من أن هذا الطريق السريع يربط القاهرة بحلوان والجيزة بالمطار، وكذلك الحال مع مباني المخابرات العامة والحربية، ووزارتي الدفاع والداخلية والسفارات المنتشرة في المحافظتين.
لم تكتف الحكومة بإحاطة هذه الأبنية العسكرية والأمنية والدبلوماسية فقط بالحواجز الخرسانية، فحول كل قسم شرطة تصطف حواجز رملية وخرسانية يستتر خلفها الجنود، وعلى المواطن المصري، أن يجد طرقا أخرى توصله إلى هدفه بعيدا عنها.
يقول عم حسين، سائق "تاكسي" أجرة في القاهرة، " عندما يطلب مني زبون أن أوصله إلى أي مكان، لا بد أن أعيد حساباتي مائة مرة قبل الموافقة على اصطحابه، حيث أدرس خريطة الطريق بعيدا عن أقسام الشرطة". هذا السائق الذي تجاوز عقده الخامس، يصب مئات اللعنات يوميا على الحكومة والبلد والأوضاع، لأنه مضطر للبقاء في الشوارع المغلقة معظم اليوم، فهذا مصدر رزقه الوحيد.
"بالأمس. ركب زبون معي من مطار القاهرة الدولي إلى منطقة كوبري القبة، -شرق القاهرة-، استغرق الطريق أكثر من 3 ساعات، نلف وندور بالسيارة في الشوارع الجانبية الضيقة لنتجنب قدر الإمكان المرور بالشوارع المطلة المحيطة بأقسام الشرطة، أو المرور من أمام مبنى المخابرات بمنطقة حدائق القبة"، يقول سائق التاكسي، وهو ينفث بعصبية دخان سيجارة محلية الصنع بيده.
يستطرد السائق "المشوار الذي كان يتكلف حوالي 10 جنيهات، أصبح يتكلف 20، والذي يتكلف 20 جنيها، تخطى حاليا 40 جنيها، الناس ظروفها صعبة ولم يعد أحد يركب تاكسي".
هذه المعاناة التي يحكيها سائق "التاكسي" لا تختلف في تفاصيلها كثيرا عن حكاية أخرى ترويها دينا محمد، الفتاة العشرينية، الطالبة بكلية التجارة جامعة القاهرة، التي تقطن بمدينة نصر، بالقرب من مبنى الأمن الوطني وميدان رابعة العدوية. "طريق الجامعة أصبح جحيما لا يقل عن ركوب مترو الأنفاق، وركوب أتوبيسات النقل العام، أو الميكروباصات أصبح جحيماً أكثر"، تقول دينا.
الداخلية تؤمن .. والجيش ينفق
يقول مصدر مسؤول بمجلس الوزراء المصري، إن وزارة الداخلية هي وحدها المسؤولة عن تأمين كل هذه المقرات والمنشآت، وإن القوات المسلحة المصرية، هي التي تدفع تكاليف التأمين وبناء الحواجز الخرسانية.
المسؤول الذي فضل عدم ذكر اسمه، يضيف "قطاع الأمن في كل وزارة أو سفارة أو مقر حكومة يتبع وزارة الداخلية المصرية مباشرة ولا يتبع الوزارة أو المنشأة المكلف بتأمينها، بما في ذلك مبنى مجلس الوزراء، الذي شهد إقامة حواجز أمنية وخرسانية حوله الأسبوع الماضي فقط"، مما أدى لإغلاق شارع حسين حجازي، الذي كان قبلة للمتظاهرين خلال الأشهر القليلة الماضية.
معاناة "الإسعاف"
يقول رئيس هيئة العمليات في الإسعاف التابع لوزارة الصحة المصرية، دكتور، أحمد الأنصاري، إن الأزمة الرئيسية التي تواجه تنقل سيارات الإسعاف هي الزحام المروري، مشيرا إلى أن أصعب فترة مرت على المسعفين، تلك التي تلت تفجيرات مديرية أمن القاهرة، وما تبعها من تشديدات أمنية على مديريات الأمن وأقسام الشرطة المختلفة خاصة في محافظات القاهرة والجيزة والإسكندرية.
يتابع الأنصاري "البلد كلها اختنقت بالتشديدات الأمنية والحواجز أمام المنشآت الكبرى ومديريات الأمن وأقسام الشرطة، وليس فقط الجهات السيادية والأمنية والعسكرية"، مضيفا "يكون هناك صعوبة بالغة في تنقل سيارات الإسعاف في الفترة الصباحية حتى الخامسة عصرا".
ما بين سندان التأمين ومطرقة الزحام، يجد المقيم في القاهرة أو زائرها نفسه مضطرا إلى الاشتراك في تطبيقات تستخدم على الهاتف المحمول مثل "وصلني" و "بيقولك" تساعد في بيان حالة المرور ، أو أن يتابع نشرات المرور في الراديو ليعلم ما هي أقصر الطرق إلى مقصده.