"بقدر ما كانت مصر تقليدياً، شعباً غير محارب، كانت مجتمعاً مدنياً يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم، وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب كثيراً ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج، والحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان كقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة، بوليسية على الشعب".. هكذا يصف المفكر المصري الراحل، الدكتور جمال حمدان، طبيعة العلاقة بين الجيش والشعب في مصر بدقة بالغة، في الجزء الرابع من كتابة الرائع شخصية مصر.
لكن كيف تبدو طبيعة العلاقة بين الجيش والشعب المصريين كما وصفها جمال حمدان، في مواقف عبدالفتاح السيسي، وكيف نجح في تمرير شرعيته عبر تحالفات ومواءمات ترتكن إلى الخارج، أو ما يمكن تسميته "شراء الشرعية".
اقرأ أيضاً: بالوثائق.. هكذا روّج السيسي نظامه في "كي ستريت"
الصفقة الروسية
بعد عزل الرئيس محمد مرسي، شهدت العلاقات المصرية الأميركية توتراً شديداً لم يكن له مثيل منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، إذ عبرت الولايات المتحدة عن غضبها بإجراءات غير مسبوقة تمثلت في إلغاء مناورات النجم الساطع، وتعليق المساعدات العسكرية لمصر، وهو ما تطلب تحركا سريعا من قبل النظام المصري الجديد وحلفائه لكسب تأييد دولي معاكس قد يوازن الأمور.
لم يجد النظام المصري أفضل من الحليف القديم له، المتمثل في روسيا ورئيسها الحالي فلاديمير بوتين، وسرعان ما سرت أنباء عن صفقة أسلحة روسية لمصر، تم تأكيدها بعد ذلك على لسان وزير خارجية المملكة العربية السعودية، والتي مثلت الداعم الأكبر للنظام المصري الجديد، ضمن حزمة مساعدات قال الوزير السعودي إنها ستمثل تعويضاً لمصر عن أية مساعدات سيتم وقفها أو إلغائها.
كان لمثل هذه التصريحات والاتفاقات الأثر الكبير على الموقف الروسي، والذي قدم بعدها دعماً كبيراً للنظام المصري وسط موقف دولي رافض لما يحدث في مصر، إذ بدأ الجانبان المصري والروسي في الترتيب لتوريد صفقة الأسلحة، وهو ما مثل رابطاً قوياً للعلاقات المصرية الروسية، والتي لم تتوقف عند دعم النظام أمام المجتمع الدولي المترقب فحسب، وإنما امتد إلى المجاهرة بدعم الشريك الجديد ووزير الدفاع آنذاك عبدالفتاح السيسي، في طريقه نحو رئاسة الجمهورية المصرية.
حققت الصفقة، المرجو منها وأكثر، إذ استفادت روسيا من صفقة أسلحة كبيرة تماثل ما قامت بشرائه مصر منها على مدى عقد كامل، في وقت كانت تمر فيه بأزمة مالية جراء عقوبات أوروبية عليها بسبب تدخلها في أوكرانيا، وكذلك استفاد النظام المصري بالحصول على دعم دولي كبير، في مواجهة مشاكل خارجية عديدة، كذلك استفاد منها النظام السعودي في كسب ولاء النظام المصري الجديد، هذا الولاء الذي تمت ترجمته سريعا إلى إرسال قوات مصرية لحماية أمن السعودية ومصالحها وتنفيذ رؤيتها الإقليمية، لا سيما في اليمن، وهو ما يعد تحولا شديدا، (لم يحدث مثله تاريخيا)، في دور مصر من القيادة العربية إلى الانقياد وراء السعودية.
يعلق على ذلك، الدكتور عمرو عبد الرحمن المدرس بالجامعة الأميركية ومدير قسم الحريات المدنية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، قائلا "كان مشهدا خروج مبارك ومرسي من الحكم من أشد المؤثرات، على أداء وطريقة تعامل السيسي مع العالم الخارجي، واطلاعه على خفايا الأمور كونه أحد المقربين جدا من دائرة الحكم في نظام مبارك وأحد الأطراف الرئيسية في تجربة مرسي، وهو ما جعله يسلك طريقا جديداً يعتمد فيه على تنويع تحالفاته الدولية".
اقرأ أيضاً: فرق الموت.. الإصدار المصري من طريق الهلاك
الصفقة الفرنسية
وقعت مصر في 16 فبراير/شباط 2015، عقد صفقة عسكرية مع فرنسا لشراء 24 طائرة من طراز "رافال" وفرقاطة من طراز "فريم" متعددة الاستخدامات وصواريخ. وقتها ثار جدل واسع حول هذه الصفقة منذ لحظة الإعلان عنها وحتى الآن، إذ إن الصفقة لم يُعلن عن تفاصيلها بشكل مفصّل، ما أدى إلى تضارب بشأن قيمتها في تقارير وكالات الأنباء العالمية والرسمية بشكل غريب وملفت للنظر، فقد تداولت وكالات الأنباء عدة أرقام للصفقة منها 5.7 مليارات يورو، 5.2 مليارات يورو، 5.6 مليارات يورو، وأخيرا 5.9 مليارات يورو.
إلا أن الشيء الأكثر غرابة هو سعر الطائرة الواحدة داخل هذه الصفقة، والذي ستدفعه مصر، إذ إنه وعلى الرغم من عدم الإعلان بشكل رسمي عن تفاصيل الصفقة إلا أنه وبعد الإعلان عن ثمن الفرقاطة، والذي بلغ 800 مليون يورو، يتبقى من الصفقة تقريبا 4.4 مليارات يورو وهو ما يعني أن الطائرة الواحدة قد بلغ ثمنها قرابة 183 مليون يورو بما فيها الصواريخ، في حين أن تكلفة صفقة أخرى سبق أن تم الإعلان عنها بين فرنسا والهند لبيع نفس الطائرة بلغ بثمن 110 مليون يورو فقط.
ما زاد سعر الصفقة غموضاً السرعة الرهيبة في عقدها، فالطائرة التي تعثر بيعها 6 مرات على مدار ثلاثة عقود قامت مصر بشراء عدد منها في أسرع صفقة في تاريخ فرنسا من نوعها بحسب ما ورد في الإعلام الفرنسي، وكذلك ذهب عدد من الخبراء الدوليين في مجال الدفاع، إلى الحديث عن عدم حاجة مصر إلى الصفقة برمتها، معللين ذلك بحاجتها إلى الطائرات التي تستخدم في المطاردات داخل المناطق الجبلية والصحراوية لتعزيز موقف الجيش في حربه على الإرهاب داخل سيناء مثل طائرات الأباتشي أو المروحيات الأخرى، ومن دون الحاجة إلى زيادة عدد المقاتلات، والتي تمتلك مصر القوة الأكبر منها أفريقياً.
إلا أن المكاسب السياسية للنظام من وراء هذه الصفقة، تبدد بعضاً من هذا الغموض، إذ طلب الرئيس الفرنسي، (بعد توقيع الاتفاقية بين مصر وبلاده)، بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث الوضع الليبي في استجابة لطلب السيسي بعد حادثة قتل 21 مصرياً قبطياً داخل الأراضي الليبية، وقتها كان الرئيس الفرنسي هو أول من اتصل به السيسي بعد بث داعش لفيديو مقتل المصريين، إضافة إلى موقف فرنسا الداعم للسيسي في مواقف عدة مثل إرسال وزير المالية الفرنسي على رأس الوفد المشارك في المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ، وحضور الرئيس الفرنسي لحفل افتتاح تفريعة قناة السويس، وهو ما مثل أعلى تمثيل غربي في الحفل.
الصفقة الألمانية
على نفس الدرب من شراء الشرعية والدعم السياسي الخارجي، واصل السيسي مسيرته، مُمرراً نفسه سياسياً إلى الخارج عبر صفقة اقتصادية أخرى كانت هذه المرة من نصيب شركة "سيمنز" الألمانية، والتي كانت بمثابة صك قبوله لدى الحكومة الألمانية التي كانت ترهن استقباله في بلادها، بعقد انتخابات برلمانية وتشكيل برلمان مصري، وهو ما علقت عليه وسائل الإعلام الألماني بأنه "صفقة بيع المبادئ مقابل البيزنس".
لا مثيل لها
مثلت صفقة السيسي الكثير لشركة سيمنز، والتي تُعاني من توقف قسم محطات توليد الكهرباء عن العمل، ما أجبرها على التخلص من معظم العاملين في هذا القسم، إذ لم يقم بتنفيذ أية أعمال أو صفقات منذ 6 سنوات.
كانت صفقة السيسي الألمانية، الأكبر من نوعها في تاريخ الشركة التي تعمل في هذا المجال منذ عام 1847، مما جعل ضغوطها مضاعفة على الحكومة الألمانية، والتي قبلت استقبال السيسي على أراضيها ضاربة بالتوصيات والتقارير الحقوقية التي نددت بذلك عرض الحائط.
من يدفع الثمن؟
بالرغم من أهمية صفقة سيمنسز لمصر التي تُعاني من أزمة شديدة في الطاقة الكهربائية، إلا أن الطريقة التي تمت بها الصفقة تدعو للتساؤل، إذ إن الصفقة التي يعول عليها في إنتاج نصف ما تنتجه مصر حاليا من الكهرباء، كان يجب أن تتمتع بشفافية أكثر وأن يتم طرحها لمناقصة عالمية، وأن يتم تمريرها من خلال برلمان منتخب، خصوصاً أن الصفقة بكاملها، والتي تقدر بـ 8 مليارات يورو سيتم تمويلها عبر قروض ستتحمل أعباءها وأعباء فوائدها الأجيال القادمة، إلا أن ما سبق لم يرد بالتأكيد في مخيلة نظام الرئيس السيسي، في مقابل كسب رضى ألمانيا اللاعب الأوروبي الأهم والأكثر نفوذاً.
--------
اقرأ أيضاً:
خلفاء «غوبلز» في الإعلام المصري