تتعدد أسباب انتساب السوريين لـ"داعش"، وتبدو جميعها أسباباً مقنعة من وجهة نظر المنتسبين، ويراها المنصفون في سياقاتها أمراً طبيعياً، وترجع دوافع الانخراط في فلك "داعش" لأسباب عسكرية واقتصادية ودينية واجتماعية وإعلامية، وغيرها.
يعد قتال نظام بشار الأسد سبباً رئيساً لانضمام شريحة كبرى من السوريين، ولا سيما في المراحل الأولى من عمر "داعش". يقول حسن، منشق عن التنظيم من ريف حلب: "لم يختلف داعش عن أي فصيل سوري يقاتل الأسد، ولم أتصوّر أن يقف داعش بوجه الثورة، فقد كنا نقاتل إلى جانب الثوار في خندق واحد".
ويشير إلى أن "تنظيم الدولة" لم يطرح حينها أي فكر متطرف بشكل علني، بل تعاون مع الفصائل لاستقطاب شريحة الشباب ريثما تقوى شوكته. يتابع حسن: "الشباب أقبلوا على مبايعة داعش لما رأوه من شراسة مقاتليه في مقارعة قوات الأسد؛ إذ كانت تدريباتهم عالية المستوى وخططهم العسكرية مدروسة؛ فاعتقدوا أنه أكثر فاعلية بالقضاء على النظام"، ولم يدر بخلد معظم المنتسبين بدايةً أن تنحرف فوهة البندقية عن النظام.
ولا يغيب الإيمان العقائدي، إذ نجح التنظيم من خلال الدورات الشرعية في جذب الشباب المتحمس، ولم يعِ الثوار حينها خطورة هذا الفكر. يقول أبو البراء مقاتل في الجيش الحر من ريف حلب: "لم نمنع داعش من إقامة الدروس والدورات الشرعية لأننا اعتقدنا وجوب حرية الكلمة، فقد ثرنا من أجل الحرية ولا يعقل أن نمنع الآخرين من ممارسة حقهم".
وكان داعش ذكياً؛ إذ تجنب، في البداية، الصدام مع الثوار، وتبنى خطابهم إلى حد بعيد؛ فنادى بجهاد الظالم، ووجوب الرجوع لشرع الله وتحكيمه. محمود، وهو أب لأحد المنتسبين لـ"التنظيم" من مدينة الباب في ريف حلب، يقول: "ندمت كثيراً لأني شجعت ابني على حضور دروسهم، واكتشفت خطرهم بعد عودة ابني من المعسكر الشرعي؛ فشعرت أنهم غسلوا دماغه، فغدا ينتقدني وأمه وأخواته وأخوته في كل شاردة وواردة، ظناً منه أنه ختم الشرع في عشرين يوماً" إذ تركز الدورات الشرعية على أمرين مهمين: تحكيم الشريعة بحد السيف، وغرس عقيدة الولاء والبراء بالمفهوم الداعشي، وبما أن الخطاب وُجه لشريحة الشباب المتحمس الفقير دينياً فقد وجد أرضاً خصبة، وهذا ما يفسر قلة المنتسبين من ثوار مارع في صفوف داعش، فقد منع ثوارها داعش من ممارسة نشاطه الدعوي.
وما ساعد حقيقة على إيمان الشباب بالعقيدة الداعشية، ودفعَهم للانخراط في صفوفه؛ فساد قسم كبير من رجال الطبقة الدينية التي تبنّى كثير من أبنائها خطاباً رجعياً استسلامياً مهادناً للنظام. يقول الناشط الإعلامي أبو عبد الله، من ريف حلب: "قارن الشباب المتحمس بين خطاب مشايخ داعش وأفعالهم وبين علماء السلطان الذين يمجّدون ويمدحون ويدعون للنظام على المنابر، فوجد أن الحق مع داعش" ولم يدرك هؤلاء الشباب أن الطرفين على خطأ وثمة طرف ثالث يختلف عنهما.
يتابع أبو عبد الله: "ملاحظة بسيطة لمواقف العلماء في سورية توضح مدى تأثيرهم في تمدد داعش وانحسارها. ففي دمشق وريفها التي وقف كثير من علمائها بوجه الظلم كالشيخين أسامة وسارية الرفاعي والشيخ كريم راجح والنابلسي وغيرهم، نجد انحساراً للفكر الداعشي بل تطويقاً له رغم أن الفصائل معظمها إسلامية الفكر".
ويختلف الأمر في محافظة حلب والريف الشرقي، حيث تنتشر الطرق الصوفية وكثير من العلماء الفاسدين الذين اتّخذ معظمهم موقفاً سلبياً من الثورة. يقول عمر، وهو مريد لدى إحدى الطرق الصوفية من مساكن هنانو في حلب، إنه لم يشارك بالثورة لأن شيخه أخبرهم بأن الثورة فاشلة وبشار باقٍ.
ويوضح الناشط أبو عبد الله من حلب موقف علمائها: "يذكر أهالي حلب خطيب الكلتاوية محمود الحوت وخطاب الشيخ الشامي إمام جامع آمنة وخطاب الشيخ أحمد عيسى المعروف بتبعيته للنظام في منبج، فكلهم كانوا أصواتاً للنظام، وكانوا على صلة أمنية معه". وأمام هذا الخطاب وفسادهم المالي نبذهم الشباب وتوجهوا لداعش التي رأوا فيها ثورة دينية ضد الخطاب الديني الاستسلامي.
خدم غياب المشروع السياسي الوطني الجامع الفكر الداعشي، إذ شعر كثير من الشباب أن داعش تمثل معادلاً موضوعياً، وأنه قادر على تغيير الواقع. يقول الناشط الحقوقي أبو حسن من حلب: "وجد الشباب عبثية السلمية في مواجهة الاستبداد، واقتنعوا أن الحديد لا يفله إلا الحديد، ونظام كنظام الأسد لن تقتلعه قوة عادية فلا بدّ من قوة متطرفة" واستند داعش لنصوص دينية فسرها وفق مزاجه لإقناع الشباب بعدم جدوى أي حل سياسي، بل أقنعهم أن التجربة السياسية كفر من ألفها إلى يائها.
لم يكن النظام وحيداً بدفع الشباب نحو داعش، حيث أسهم الثوار في ذلك أيضاً من خلال فساد بعضهم من جهة وعجزهم عن محاسبة الفاسدين من جهة أخرى. يقول الناشط أبو عبد الله: "حدثت فوضى بالساحة العسكرية؛ ففي الحي الواحد والقرية الواحدة تجد أكثر من فصيل، وحمل السلاح من هبّ ودب، وتسلق الجميع الثورة، وزرع النظام كتائب له ضمن صفوف الثوار فمورست أعمال سلب ونهب باسم الثورة ليأتي داعش ويسيطر بدعوى محاربة المفسدين في الأرض" فلاحق عدداً من الفصائل وقتل عدداً من الفاسدين، فاعتقد الشباب أن داعش يسعى لتطهير الثورة.
كما قام بعمليات إعدام علنية بحق مجرمين لم يستطع الثوار محاسبتهم، يقول أبو عبد الله: "حققت عمليات ملاحقة الفاسدين وإعدام المجرمين شعبية لداعش في الأحياء الشعبية والأرياف التي شهدت فوضى أمنية، فقد امتهنت كتائب عدة الخطف والسرقة".
ودفع النظام الشباب في اتجاه داعش ليبرر قمع الثورة الوطنية الشعبية، يقول الحقوقي أبو حسن: "لم يقتصر دور النظام في أدلجة الثورة من خلال إطلاق سراح المتطرفين وحسب، فقد قدم لهؤلاء الأنصار من خلال أخذ الثورة لمنحى طائفي سواء عبر المجازر أو مشاركة لون معين في قمع الثورة" ولم تستطع الطائفة العلوية منع النظام من جرها لهذا المستنقع.
يقول أبو حسن: "ركز داعش على وجوب محاربة النصيرية (الأسد) والشيعة (إيران) وأقنع الشباب أنه يخوض حرب الأمة المقدسة". وفعلاً ساعدت التطورات المتلاحقة في الدفع نحو هذا المنزلق الذي استقطب التنظيم من خلاله الكثيرين من أبناء السنّة بدعوى الحفاظ عليهم من الإبادة.
وشارك المجتمع الدولي حقيقة بشكل غير مباشر بانتساب الشباب لداعش، إذ وقف مجلس الأمن والقوى العظمى موقفاً سلبياً من الصراع الدائر في سورية؛ ما دفع كثيراً من الشباب لليأس وتبني التطرف.
يقول الحقوقي أبو حسن: "يتطرف المرء عندما يفقد الأمل، ويشعر أن الجميع ضده، وهذان العاملان توفرا في سورية؛ فقد شعر الشباب أن العالم بأسره يتآمر عليه". وفعلاً شعر الشباب أن ما يسمى أصدقاء الشعب السوري قبل غيرهم يطيلون أمد الأزمة، وحدثت الطامة بإعلان التحالف الحرب على داعش دون النظام، إذ انتسبت مجموعات من أحرار الشام والنصرة حينها لداعش.
تعد هذه بعضاً من أسباب انتساب الشباب قبل حدوث الصراع بين الثوار والتنظيم بداية 2014م وسقوط آلاف القتلى؛ حيث اختلفت الأسباب بعد هذا الصراع الدامي، وسيطرة التنظيم على مساحات شاسعة وإعلان دولة الخلافة، وبرزت هنا أربعة أسباب رئيسة تمثلت بسلطة الأمر الواقع وغياب البديل.
يقول الناشط أبو يزن من دير الزور: "وجد ثوار دير الزور الذين اعتزلوا الصراع مع تنظيم داعش أنفسهم أمام خيار ترك السلاح أو حمل السلاح ومتابعة قتال النظام في صفوف داعش، فاختار قسم مبايعة داعش بحكم سلطة الأمر الواقع" وينسحب هذا الأمر على كثير من الأفراد والكتائب في حلب والرقة والدير والحسكة إذ لم يعد الأمر كالسابق.
ومع تمكن داعش وعلو كعب التنظيم صعد المنتفعون المركب الجديد، وعرف التنظيم كيف يستثمر محبي السلطة والظهور لتمكين سلطته. يقول الناشط أبو يزن: "صدّام الجمل مثال للباحثين عن المجد والشهرة، ولمع نجمه مع الثورة، وانتسب لداعش ليحافظ على مكانته التي وصل إليها، ولعب دوراً في سقوط دير الزور بيد داعش".
ويذكر الناشط أبو عبد الله من ريف حلب مثالاً على دور حب السلطة في الانتساب لداعش، محمد البشر، والذي كان يطمح لرئاسة المجلس الثوري في منبج، لكنه لم يكن يملك السلطة، فتقرّب من الإسلاميين لما شعر بازدياد نفوذهم ليبايع "داعش" ويعيّنه رئيساً لبلدية منبج خلفاً لأبي محمد الألماني فيما بعد.
وعندما شعر داعش أن نسبة المنتسبين آخذة في التناقص عمد إلى التضييق على الأهالي؛ فمنع المنظمات الإغاثية والإنسانية من العمل، وضيّق على أصحاب المهن والحرف، وأغلق المدارس ومنع من هم دون 45 من الذهاب لمناطق النظام لقبض رواتبهم، يقول الناشط أبو عبدالله: "أعرف شباباً، منهم قريبي موسى، انقطع راتبه، ووالدته كانت مريضة، فاستدرجه بعض أصحابه، فتقدم لوظيفة إدارية، وتدريجياً أصبح مبايعاً لداعش".
وأمثال موسى كثر، ولا سيما أمام الشباب الذي وجد نفسه محاصراً بلا عمل أو دراسة في حين فتح داعش له الباب مشرعاً على حياة رغدة حيث يدفع له أجار البيت وكسوته وفرشه ومهر العروس، بل ويعطيه راتباً بالدولار، ففضل كثيرون الحياة المنعمة والموت السريع في صفوف داعش على الموت البطيء فقراً وعوزاً.
كذلك، دفع الفقر معظم نازحي السفيرة في منبج للانخراط في التنظيم. تقول أم محمد، وهي نازحة من السفيرة: "لدي ثلاث بنات وشاب وطفل وأنا أرملة لا عمل لي، ولا يستطيع ابني فتح مشروع فانتسب ليعيل العائلة" إذ يتكفل داعش بإعالة عائلة العنصر مهما بلغ عدد الأفراد.
وأجاد التنظيم العزف على وتر المراهقة؛ فنجحت آلته الإعلامية في جذب محبي المغامرة والسلاح، ولا سيما أن ذلك اقترن مع المال وأجواء الشباب والمرح.
يقول الناشط أبو عبدالله: "خلافاً لما يعتقد كثيرون؛ فمعسكرات التنظيم تحتوي كثيراً من الترفيه، ويأكلون ويشربون ما لذ وطاب". وفي السياق نفسه يقول المدرس عبد القادر من ريف حلب: "انتسبت مجموعتان من قريتي إلى داعش، فقد تأثرت المجموعة الأولى بالخطاب الحماسي ورؤية المهاجرين، وبعد انتساب المجموعة الأولى لحقتها مجموعة ثانية وكلهم شباب بين 17- 20 سنة".
ولا يقتصر الأمر على ما سبق؛ فهناك أسباب نفسية، وشخصية فضلاً عن أسباب عامة كثيرة، كلها كانت رافداً لتغذية صفوف التنظيم ومدّه بالمقاتلين.
(سورية)