في اليوم العاشر من استمرار اختفاء الصحافي جمال خاشقجي، تواصلت التحقيقات التركية لحسم مصيره وتحديد ما إذا كان قد قتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، فيما لم تتوقف التسريبات بشأنه، بما في ذلك ما أفاد به مصدر أمني تركي لقناة الجزيرة لجهة امتلاك أنقرة أدلة قاطعة على مقتل خاشقجي ومكان مقتله، مشيراً إلى أن واشطن اطلعت عليها. في موازاة ذلك، بدا واضحاً، منذ أمس الخميس، أن ملامح مرحلة جديدة في التعاطي مع السعودية ودفعها لتحمل مسؤوليتها عن الجريمة بدأت ترتسم، لا سيما بعد تراكم الأدلة التي باتت تحاصرها.
ولا تقتصر المرحلة الجديدة من التعاطي مع السعودية على تركيا، التي حث رئيسها رجب طيب أردوغان ووزير خارجيتها مولود جاووش أوغلو مرة جديدة، أمس، السلطات السعودية على التعاون. واستتبع توالي الأدلة التي تسربت عبر أبرز الوكالات والصحف العالمية، وعجز السعودية عن تقديم أي تفسير لعدم تعاونها مع السلطات التركية في التحقيقات وحجب صور كاميرات المراقبة، صدور مواقف دولية حازمة سواء داخل الولايات المتحدة أو من قبل المفوضية الأوروبية، تدفع باتجاه تشكيل لجنة تحقيق دولية في الجريمة.
وترافق ذلك مع إجماع على إدانة السعودية بوصفها ضالعة في الجريمة حتى من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب. والأخير الذي اختار لأيام تجاهل القضية، انتقل، أمس، إلى مرحلة تحميل السعودية المسؤولية المباشرة عن جريمة اختفاء خاشقجي بعدما قال "نعمل مع تركيا والسعودية، لأن خاشقجي دخل القنصلية السعودية، وحتماً لم يخرج". وأوضح ترامب في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" التلفزيونية أن محققين أميركيين يساعدون تركيا في تحقيقها، لافتاً إلى أن هؤلاء المحققين يعملون أيضاً مع السعودية، قبل أن تنفي مصادر دبلوماسية تركية التقارير عن تعيين الولايات المتحدة مفتّشين للمشاركة في قضية خاشقجي.
وحول ما إذا كان يوجد أي خطر الآن على العلاقة مع السعودية، قال ترامب: "يجب أن أعرف ماذا حدث، وعلى الأرجح أننا نقترب من ذلك أكثر مما تعتقدون". وبسؤاله عن تقرير "واشنطن بوست" الذي قال إن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أمر بعملية لإعادة خاشقجي إلى السعودية، قال ترامب: "سوف يكون أمراً مؤسفاً جداً، وسنعرف ماذا حدث في المستقبل القريب جداً، فلدينا أشخاص يعملون على الأمر، لا يعجبنا ما حدث ولا أحد يعجبه ما حدث".
وجاءت تصريحات ترامب في وقت لم يعد مستبعداً احتمال فرض عقوبات على المملكة، تحديداً من الولايات المتحدة، تطاول مسؤولين سعوديين على أعلى مستوى وأخرى تعطل صفقات السلاح مع الرياض، على الرغم من أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف التراجع عن بيع الأسلحة للسعوديين بأنه "دواء بالغ المرارة ليتجرعه بلدنا".
وبدا واضحاً منذ أيام، أن الكونغرس الأميركي، وفي ظل تلكؤ إدارة ترامب، قرر استلام زمام الضغط السياسي من أجل كشف تفاصيل الجريمة من جهة وضمان أن لا تمر من دون تبعات قانونية وسياسية على السعودية، لأنه "لا يمكنك أن تقتل الصحافيين كما تشاء"، على حد قول السيناتور بوب كوركر لوكالة رويترز، أمس الخميس.
وتشكل الرسالة الموجهة إلى ترامب، التي وقع عليها اثنان وعشرون عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، لتفعيل تحقيق لتحديد ما إذا كان يجب فرض عقوبات متعلقة بحقوق الإنسان في ما يتصل باختفاء خاشقجي، أولى الخطوات العملية باتجاه فرض العقوبات على السعودية.
ودعا كبار المشرعين في السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ ترامب الأربعاء إلى فرض عقوبات على "أي شخص أجنبي مسؤول عن قضية خاشقجي"، بما في ذلك "كبار المسؤولين في الحكومة السعودية"، بموجب قانون غلوبال ماغنيتسكي، الذي يسمح للولايات المتحدة باستهداف مسؤولين حكوميين معينين متورطين في انتهاكات حقوق الإنسان.
وقال الأعضاء في الرسالة التي وجههوها لترامب، إنهم فعّلوا بنداً في قانون ماغنيتسكي للمساءلة العالمية بشأن حقوق الإنسان الذي يلزم الرئيس بتحديد ما إذا كان شخص أجنبي مسؤولاً عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وأضافوا في الرسالة: "نتوقّع عند اتخاذك القرار أن تضع في الاعتبار أي معلومات ذات صلة، بما في ذلك ما يتعلّق بأرفع مسؤولين في الحكومة السعودية". ومن الممكن أن يؤدي طلب أعضاء مجلس الشيوخ فتح تحقيق في اختفاء خاشقجي إلى فرض عقوبات.
ويلزم هذا القانون الرئيس الأميركي بفتح تحقيق بعد طلب من الأعضاء البارزين في اللجنة، في ما إذا كان أجنبي مسؤولاً عن جريمة قتل أو تعذيب أو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان المعترف بها دولياً بحق شخص يمارس حريته في التعبير. كما يلزم قانون ماغنيتسكي الرئيس بإصدار تقرير خلال 120 يوماً من الرسالة، يتضمن قراراً بشأن فرض عقوبات على أي شخص يعتبر مسؤولاً عن انتهاكات حقوقية خطيرة مثل التعذيب والاحتجاز لمدة طويلة دون محاكمة أو قتل شخص خارج نطاق القضاء لممارسته هذه الحرية.
ويمنح قانون ماغنيتسكي لرئيس الولايات المتحدة صلاحية فرض عقوبات على المسؤولين الحكوميين، ورفض تأشيرات دخول، وتجميد أموال أي مسؤول أجنبي متورط في انتهاكات حقوق الإنسان.
ولقد أُرسل خطاب بهذا الشأن إلى ترامب، من قِبل كل من رئيس لجنة العلاقات الخارجية، السيناتور الجمهوري عن ولاية تنيسي، بوب كوركر، وعضوي اللجنة المخضرمين، السيناتور الديمقراطي عن ولاية نيو جيرسي، بوب ميننديز، والسيناتور الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية، ليندسي غراهام، ونائب رئيس لجنة المخصصات المالية في مجلس الشيوخ، السيناتور عن ولاية فيرمونت، باتريك ليهي. ووقّع على الخطاب جميع أعضاء لجنة العلاقات الخارجية، باستثناء السيناتور الجمهوري عن ولاية كنتاكي، راند باول.
والقانون المذكور اعتمده الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في ديسمبر/ كانون الأول 2016، ويهدف إلى توسيع نطاق تشريع من عام 2012 تم بمقتضاه تجميد أصول مسؤولين روس ومنعهم من السفر إلى الولايات المتحدة بسبب صلتهم بوفاة روسي يدعى سيرغي ماغنيتسكي في السجن عام 2009، بعد الكشف عن أعمال غير قانونية.
وباتت الخيارات محدودة أمام الرئيس الأميركي، خصوصاً بعدما حاول في الأيام الأولى تجاهل القضية. وفي السياق، نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن بروس ريدل، الذي خدم أكثر من 30 عاماً في وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" عمل خلالها في الشرق الأوسط وأوروبا، قوله إنه بدلاً من الثناء الذي أغدق على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ووالده سلمان بن عبد العزيز من قبل البيت الأبيض، "ينبغي على الإدارة أن تعامل ولي العهد ووزير الخارجية"، السفير السعودي السابق لدى الولايات المتحدة عادل الجبير، "كمنبوذين دوليين". وقال ريدل، وهو مؤلف كتاب "الملوك والرؤساء: المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة منذ روزفلت"، إن "استخدام منشأة دبلوماسية للاختطاف والقتل يعد بمثابة جرائم حرب ويجب أن يؤدي إلى نبذها من المجتمع العالمي. لن يفعل ترامب ذلك، لكنه يجب عليه ذلك".
كما شنت صحيفة "واشنطن بوست" في افتتاحية لهيئة تحريرها بعنوان "آن الوقت لأن تقول السعودية الحقيقة بشأن جمال خاشقجي"، هجوماً عنيفاً على السعودية وولي العهد محمد بن سلمان واصفة النظام السعودي بـ"الشرير والمتهور"، والذي لا يجب الوثوق به من قبل الولايات المتحدة، فيما ذكّر السيناتور تشاك شومر ولي العهد السعودي الذي يعتبر نفسه "إصلاحياً" بأن "الإصلاحيين لا يغتالون خصومهم".
وسخرت الصحيفة من ادعاءات المسؤولين السعوديين، تحديداً السفير في واشنطن خالد بن سلمان، عندما قال إنهم يتشاطرون القلق بشأن مصير خاشقجي، مذكرة بما قاله السيناتور تيم كاين حول أن "عبء إثبات عدم المسؤولية عن اختفاء خاشقجي يقع على السعودية وحدها، وأنه في حالة عدم وجود استجابة كافية، يجب أن يتحمل النظام المسؤولية. وسيكون علينا تحليل كل شيء عن العلاقة الأميركية السعودية"، بما في ذلك المبيعات العسكرية والتعاون.
وتطرقت الصحيفة إلى تطور موقف ترامب من القضية بعد إعلانه عن اتصالات مع السعوديين على أعلى مستوى، قائلة إن هذا الأمر أفضل من ادعائه الجهل على غرار ما قام به في الأيام الأولى من عملية الاختطاف، لكنها وصفت رده بأنه لا يزال فاتراً. وقالت إنه يتعين على ترامب التشاور مع مسؤولي الاستخبارات والدبلوماسيين، الذين هم على اطلاع جيد على الأدلة. وأضافت "يجب عليه أن يقبل أن نظاماً شريراً ومتهوراً بما فيه الكفاية للإشراف على قتل صحافي داخل منشأة دبلوماسية، ثم الكذب بشكل صارخ حيال ذلك، لا يمكن أن يكون شريكاً موثوقاً للولايات المتحدة". واعتبرت أنه إذا لم توضح الحكومة السعودية على الفور ما حدث لخاشقجي وقيامها بمعاقبة المسؤولين عن ذلك، فإنه يجب فرض العقوبات، من قبل الكونغرس، إذا لم يستطع ترامب أن يحرك نفسه.
وأشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين الأتراك لديهم مزيد من الأدلة بشأن جريمة خاشقجي لم تنشر بعد. وأوضحت أن أحد مصادرها قال إن الأتراك يملكون تسجيلاً صوتياً لعملية القتل، وأنه تم إطلاع المسؤولين الأميركيين على الأدلة وذلك بالتزامن مع كشفها أن المخابرات الأميركية كانت على عِلم بأن ولي العهد محمد بن سلمان، الذي وصفته بالحاكم الفعلي للسعودية، أمر باستدراج خاشقجي من الولايات المتحدة التي يقيم فيها إلى السعودية للقبض عليه.
وبحسب الصحيفة، فإن خاشقجي الذي اختار الإقامة في الولايات المتحدة، أبدى أمام العديد من أصدقائه تشكيكه في عروض قدمها له، بحسب التقرير، "مسؤولون سعوديون مقربون من ولي العهد" تتضمن وعوداً بمناصب حكومية رفيعة في السعودية وبتأمين الحماية له.
وذكر أصدقاء خاشقجي أن "الصحافي السعودي ارتاب في هذا العرض، وقال إن الحكومة السعودية لن تلتزم بوعودها في عدم إلحاق الأذى به"، وفق ما نقلته "واشنطن بوست".
وتساءلت الصحيفة عمّا إذا كانت الاستخبارات الأميركية قد أبلغت خاشقجي بالمعلومات التي توصلت إليها عن تخطيط الحكومة السعودية لاعتقاله. وأشارت إلى أنه، بحسب تعليمات موقعة عام 2015، فإن أجهزة الاستخبارات الأميركية ملزمة بتحذير الأشخاص الذين يكونون عرضة لخطر الخطف أو الإصابة البالغة أو القتل، ولا تشترط التعليمات أن يكون المعني مواطناً أميركياً.
وفي سياق استمرار التحقيقات، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس الخميس، إن القنصلية العامة السعودية في مدينة إسطنبول لديها أحدث أنظمة الكاميرات، وهي قادرة على التقاط أي عصفور أو ذبابة تمر من هناك. وأضاف في تصريح للصحافيين خلال عودته من المجر على متن الطائرة، رداً على سؤال عما إذا كانت هناك معلومات جديدة حول خاشقجي، أن التحقيقات مستمرة في الحادثة بجميع أبعادها، "فهي حادثة جرت في بلادنا ولا يمكننا التزام الصمت حيالها، لأنها ليست حادثة عابرة".
وبين أردوغان أنهم تناولوا الموضوع بجميع أبعاده، الأمنية والاستخباراتية وغيرها، وتمت متابعة التطورات بشكل مستمر لحظة بلحظة، بما في ذلك إجراءات الدخول إلى تركيا والخروج منها.
وأردف: "هل يمكن ألا تكون هنالك أنظمة كاميرات في قنصلية عامة أو سفارة؟ هل يمكن ألا تكون هناك أنظمة كاميرات في القنصلية العامة السعودية التي جرت فيها الحادثة؟ وهذه الأنظمة قادرة على التقاط أي عصفور يطير أو ذبابة تخرج من هناك، علما أن لديهم أحدث هذه الأنظمة". ولفت إلى أن السلطات التركية اتخذت خطوات في إطار معاهدة فيينا، وحصلت على ردود بشأن إمكانية دخول القنصلية العامة السعودية لإجراء التدقيقات اللازمة، وأن الإجراءات متواصلة بعد هذه الردود، سواء على مستوى جهاز الأمن أو وزارة الخارجية أو الاستخبارات التركية.
واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية هي معاهدة دولية وقعت عام 1961 وتحدد إطاراً للعلاقات الدبلوماسية بين الدول المستقلة، وتحدد امتيازات البعثة الدبلوماسية التي تمكن الدبلوماسيين من أداء وظائفهم دون خوف من الإكراه أو المضايقات من قبل البلد المضيف.
وتشكل الاتفاقية الأساس القانوني للحصانة الدبلوماسية وتعتبر موادها حجر الزاوية في العلاقات الدولية الحديثة. واعتباراً من فبراير/ شباط 2017 تم التصديق عليها من قبل 191 دولة.
واستطرد أردوغان: "لن يكون صائباً حالياً أن أجري تقييماً بناء على توقعات، ولكن لدينا مخاوف، ونراها صادرة من الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، سواء من السيد ترامب أو (وزير الخارجية مايك) بومبيو أو (نائب الرئيس مايك) بنس... جميعهم يعبّرون عن قلقهم حيال هذه الحادثة".
وشدد الرئيس التركي على ضرورة الانتظار إلى حين اتضاح الصورة في نهاية الإجراءات من أجل إبداء التقييم الأساسي. وختم أردوغان حديثه بالقول إنه "بعد الحصول على النتائج والوثائق، فإننا حتماً سنقوم بدورنا بالتقييم اللازم. ولكننا قلقون".
من جهته، عبّر وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أمس، عن رغبة بلاده في تعاون وثيق مع المملكة العربية السعودية في ما يتعلق باختفاء خاشقجي، لأن هذه الحادثة وقعت في القنصلية العامة السعودية، "وعلى الرياض أيضاً أن تتعاون معنا". وأشار إلى أن المؤسسات التركية تعمل معاً في هذا الإطار، بما في ذلك جهازا الاستخبارات والأمن.