وفي ختام هذا الاجتماع الاستثنائي شددت الرئاسة الفرنسية على أن "فرنسا لن تسمح بأي سلوك يهدد أمن البلاد"، وأكدت أن على الولايات المتحدة الأميركية "الالتزام بتعهداتها، خصوصاً تلك التي وعدت بها السلطات الفرنسية عام 2013"، وذلك في إشارة إلى وعود من الإدارة الأميركية بوقف كافة أشكال التجسس على الفرنسيين بعد احتجاج الرئيس الفرنسي إثر تسريب معلومات حول خضوع عدد من الشخصيات الفرنسية للتنصت من قبل الأجهزة الأميركية. وفي تطور لافت ونادر، تم استدعاء السفيرة الأميركية في باريس جاين هارتلي إلى مقر الخارجية الفرنسية، حيث أبلغها وزير الخارجية الفرنسي احتجاج بلاده على التنصت الأميركي مطالباً باستفسارات حول حيثيات هذه القضية. كما أعلن المتحدث باسم الحكومة ستيفان لوفول، أن بلاده سترسل منسّق الاستخبارات الفرنسية إلى الولايات المتحدة في الأيام المقبلة، لبحث هذا الموضوع.
آذان أميركية طويلة
واندلعت فضيحة التجسس الأميركي على الفرنسيين في وقت متأخر من ليل أول أمس الثلاثاء، عندما كشف موقع "ميديا بارت" وصحيفة "ليبراسيون" بالاتفاق مع موقع "ويكيليكس"، أن وكالة الاستخبارات الوطنية الأميركية قامت بالتنصت على مكالمات شيراك وساركوزي وهولاند منذ العام 2006 إلى مايو/أيار 2012. وشملت عمليات التنصت العديد من الوزراء ومستشاري الرؤساء وأيضاً شخصيات أخرى وازنة ومقربة من دوائر القرار.
وكان المتحدث باسم الحكومة قد اعتبر في أول رد فعل رسمي بأن "التجسس والتنصت غير مقبولين بين الحلفاء"، في حين توالت ردود الأفعال يساراً ويميناً منددة بالتنصت الأميركي ومطالبة برد فعل قوي من فرنسا تجاه الحليف الأميركي.
ولم تكشف تسريبات فحوى مكالمات الرؤساء الفرنسيين الثلاثة عن معلومات خطيرة أو أسرار دولة قد تُهدد الأمن القومي الفرنسي، وربما تعرّض العلاقات الفرنسية الأميركية إلى نكسة غير مسبوقة. وكشفت بعض برقيات ويكيليكس المسربة كيف أن شيراك كان يناور من أجل تعيين شخصية مقربة منه في منصب نائب الأمين العام للأمم المتحدة عام 2006. وكيف أن وزير الخارجية فيليب دوست بلازي آنذاك كان يقوم بتصريحات بناء على معلومات غير دقيقة. كما كشفت التسريبات انطلاقاً من مكالمات هاتفية قام بها ساركوزي، أن هذا الأخير كان يعتبر نفسه "الوحيد القادر على تقديم حلول ناجعة للأزمة الاقتصادية العالمية" وأنه يأسف لعدم تجاوب الإدارة الأميركية مع اقتراح قدمه لها حول التعاون الاستخباراتي.
دور السفارة الأميركية
وحسب معلومات سابقة سرّبها المستشار السابق في "وكالة الأمن القومي الأميركية" إدوارد سنودن، فمعظم السفارات الأميركية في الخارج مزوّدة بأجهزة تنصت متطورة ومنها السفارة الأميركية في باريس. وذكر مدير موقع "ميديا بارت" إدوي بلينيل، أن سطح هذه السفارة يحتوي على أجهزة تنصّت مغلفة بجدار مكوّن من مواد خاصة تفسح المجال لالتقاط الذبذبات الصوتية. ومن اللافت أن السفارة الأميركية في باريس تقع في قلب المنطقة التي تتواجد فيها معظم مقرات الدولة الحساسة. فعلى بُعد أقل من كيلومتر واحد يوجد قصر الرئاسة "الإليزيه" وأيضاً عدة وزارات سيادية منها الخارجية والداخلية والدفاع والعدل فضلاً عن مقري البرلمان ومجلس الشيوخ.
وعادة يستخدم الرؤساء الفرنسيون هواتف خاصة محصّنة بنظام إلكتروني منيع لصد محاولات التنصت. لكن الرؤساء الفرنسيين الثلاثة المعنيين بفضيحة التجسس الأميركي، يفضّلون أحياناً التحدث في هواتف خاصة وعادية مع محيطهم العائلي ودائرة المقربين، وهو ما يجعل منهم هدفاً سهلاً لعمليات التنصت. وكانت وزارة الدفاع الفرنسية قد حذرت عام 2006 كبار المسؤولين والوزراء والبرلمانيين من مغبة استخدام هواتف بلاك بيري باعتبار أن كل المكالمات التي تمر عبر هذا النوع يتم تسجيلها في المقر الرئيس للشركة في كندا وبإمكان الاستخبارات الكندية والأميركية المعروفتين بتعاونهما الوثيق، التنصت عليها بسهولة.
اقرأ أيضاً: باريس تندد بالتنصت على مسؤوليها وواشنطن تنفي
وحتى الآن لا تزال العديد من الشخصيات السياسية المهمة تستخدم هواتف ذكية عادية من السهل جداً التنصت عليها عبر برامج تجسس متوفرة في الأسواق. وفي عام 2010 طلبت وزارة الدفاع من شركة "تاليس" صنع 14 ألف هاتف محصّن من نوع "تيوريم" الذي يستخدمه كبار القادة العسكريين والمعروف بحصانته الشديدة، ووزّعته على كبار الشخصيات السياسية ومنهم ساركوزي نفسه. وبعد اندلاع فضيحة التجسس الأميركي، بات بعض المتخصصين يتساءل حول مدى حصانة هذا النوع من الهواتف واحتمال خضوعه هو الآخر للتنصت. أما هولاند المعروف بإدمانه الشديد على استعمال الرسائل النصية، فهو يملك أيضاً هواتف شخصية عادية يستعملها من حين لآخر مما يعرضه لخطر التنصت.
صمت فرنسي طويل
والواقع أن هذه الفضيحة جاءت لتكسر صمت السلطات الفرنسية المطبق بعد تسريبات لموقع ويكيليكس كشف فيها عام 2012 عن عمليات تنصت قامت بها وكالة الأمن الأميركية في الأراضي الفرنسية واستهدفت شخصيات وازنة في الوسطين السياسي والاقتصادي، وعلى الرغم من خطورة الأمر لم تحرك السلطات الفرنسية المعنية ساكناً. وعندما كشفت صحيفة "لوموند" في مستهل عام 2013، أن شركات فرنسية كبيرة في مجال الاتصالات مثل "وانادو" وألكاتيل" خضع مديروها لتنصت أجهزة الاستخبارات الأميركية، وعد هولاند في رد فعل رسمي بأن فرنسا ستتفاوض مع الحليف الأميركي لإيجاد صيغة تعاون أمني واضحة تحمي بلاده من تنصت الأجهزة الاستخباراتية الأميركية. غير أن وعد الرئيس الفرنسي بقي حبراً على ورق.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي وبعد اندلاع فضيحة التجسس الأميركي على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وتسريبات مجلة دير شبيغل الألمانية بخصوص تنصت الأميركيين على شبكة الهاتف الداخلية في مقر الأمم المتحدة، طلب هولاند من الإدارة الأميركية وضع حد لما وصفه بـ"ممارسات غير مقبولة"، وهو الطلب الذي يبدو من خلال بيان الرئاسة الفرنسية الأخير بأنه قوبل بتعهد أميركي رسمي بوقف عمليات التنصت لم تلتزم به في الواقع كما كشفت عن ذلك التسريبات.
وحسب العديد من المحللين الفرنسيين، فالولايات المتحدة الأميركية دأبت منذ عقود على التجسس على الجميع بما في ذلك على حلفائها المقربين، بل إنها سعت دوماً إلى إخضاع حلفائها لعمليات التجسس والتنصت نفسها التي تمارسها على خصومها وأعدائها، وتعتبر ذلك مسألة حيوية وضرورية للأمن القومي الأميركي. كما لفت البعض الانتباه إلى أن فرنسا كانت دوماً على علم بالتنصت الأميركي عليها، وأنها كانت تغض الطرف عن ذلك بشرط أن تبقى الأمور محاطة بسرية تامة. فيما يرى البعض الآخر بأن جوهر القضية يكمن في التفوق التكنولوجي الأميركي وعدم قدرة فرنسا على اختراع أجهزة تنصت مضادة أو تحصينات إلكترونية فعالة لتفادي التنصت.
غير أن الجميع يعرف بأن عمليات التنصت الأميركي على الرؤساء الفرنسيين التي بدأت في العام 2006 لها تفسير آخر في غاية المنطقية. فآنذاك كانت العلاقة بين باريس وواشنطن، (بين شيراك وجورج بوش) تمر بفترة برود بالنظر إلى الخلافات الجوهرية بينهما بخصوص الحرب في العراق التي رفضها شيراك عام 2003. غير أن العلاقات عادت إلى وضعية ممتازة بعد انتخاب ساركوزي الذي كان يعتبر نفسه صديقاً حميماً للإدارة الأميركية. وعلى الرغم من ذلك استمرت الآذان الأميركية في التقاط المكالمات الرئاسية الفرنسية، وهو الأمر الذي يضع هولاند وكبرياءه الرئاسية والشخصية في موقف حرج جداً.
اقرأ أيضاً: المغرب يحتفي بساركوزي اعتراضاً على سياسة هولاند الخارجية