ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يتم الحديث فيها عن "تجاوزات" ترافق سير الانتخابات الأميركية، أكانت الرئاسية أو انتخابات الكونغرس. فالحديث عن "تجاوزات" أمر شائع، وهناك مقولات دارجة شعبياً، مثل "الموتى يصوتون للديمقراطيين"، للإشارة إلى شيء من هذا القبيل.
وتُوجّه انتقادات لبعض الولايات الأميركية، بسبب سنّ قوانين تحجّم من تصويت شريحة من المواطنين الذين ينتخبون عادة مرشحي الحزب المنافس، مثل اشتراط الحصول على "بطاقة هوية بصورة"، لإثبات هوية المواطن الذي يريد أن يتسجل للتصويت بالانتخابات في ولاية كارولاينا الشمالية، ما يعني إقصاء عدد من الأميركيين السود، الذين لا يصدرون بطاقات هوية عادة (يستخدمون غالباً رخص القيادة كإثبات) ويصوّتون للحزب الديمقراطي، المنافس للحزب الجمهوري الحاكم في الولاية. فتم اعتبار هذا النظام العام يستهدف أنصار الحزب الديمقراطي من الأميركيين السود، وتمييزاً ضدهم. وتنظر المحكمة العليا في اعتراضات من هذا النوع، بصورة متكررة.
اليوم تواجه الولايات المتحدة وضعاً استثنائياً، مع اضطراب موقف المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، حيال النظام الانتخابي نفسه، ورفضه تأكيد قبوله لنتائج الانتخابات المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فهو وصف الإعلام بأنه "يزوّر استطلاعات الرأي" لصالح منافسته المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. ثم تحدث بشكل يتجاوز استطلاعات الرأي، ليقول إن العملية الانتخابية كلها "عرضة للتلاعب"، الأمر الذي أربك المشهد الانتخابي ككل.
وجاء أبرز رفض لتصريحات ترامب حول الانتخابات، من الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي وصف تصريحات المرشح الجمهوري بأنها "سابقة تاريخية". وأكد أوباما أنه "لم يسبق أن رفض مرشح انتخابي القبول بنتائج الانتخابات في التاريخ الحديث للولايات المتحدة"، محذراً من التداعيات الخطيرة لهذه الخطوة، موجّهاً حديثه لترامب بالقول: "توقف عن النحيب... فالانتخابات لن تزوّر".
لم تربك تصريحات ترامب المعسكر الديمقراطي وحسب، بل امتد أثرها على الجمهوريين، وتطلّبت تدخلاً "عائلياً" لتدارك الموقف. فبعد تصريح المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس، مايك بنس، حول "قبول الجمهوريين بنتائج الانتخابات"، صرح نجل ترامب، إريك، أن والده سيقبل نتائج الانتخابات "إذا كانت نزيهة"، على عكس تصريح ترامب الأخير، والذي قال فيه إنه سيقبل بنتائج الانتخابات "إذا فاز فيها"، ثم استدرك أنه "سيقرر الأمر في ذلك الوقت"، على عادة ترامب برفض إعطاء إجابات محددة حول بعض القضايا، كرفضه التصريح بطريقة محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) حتى "يفاجئ العدو".
وتبرز أسباب عدة تجعل تصريحات ترامب حول قبوله بنتائج الانتخابات، أمراً خطيراً. أولها أن للمرشح الجمهوري سوابق في الدعوة إلى استخدام العنف، تراجع عنها لاحقاً وحاول تبريرها. كما في تلميحاته لأنصار "حمل السلاح" في الولايات المتحدة بحماية "المادة الثانية" في الدستور (التي تقرر الحق بحمل السلاح للمواطنين) وذلك بـ"التعبئة ضد هيلاري كلينتون"، الأمر الذي فُسر باعتباره دعوة إلى استخدام العنف ضد المرشحة الديمقراطية، التي تدعو لتعديل قوانين حمل السلاح.
ولم تكن تصريحات ترامب حول نتائج الانتخابات عبثية، بل جاءت بعد النكسات التي تعرضت لها حملته، خصوصاً بعد تسريب الفيديو الذي يتحدث خلاله ترامب عن "تحرشه" بالنساء. إضافة إلى هبوط شعبيته بشكل ملحوظ، بعد المناظرات الثلاث، الأمر الذي أقرت به أخيراً مديرة حملته، كيلان كونواي. ما يعني فعلاً أن ترامب يخطط لشيء ما، يبرر هزيمته، أو ما يتجاوز التبرير.
أخطر ما يقوم به ترامب، هو الطعن في نظام انتخابي يُعتبر هو أحد عناصره، بتمثليه للحزب الجمهوري. فحتى أشد المعارضين الأميركيين للنظام الانتخابي، والنظام الأميركي ككل، يتحدثون عن التأثيرات السلبية لـ"جماعات الضغط" الممثلة لشركات الطاقة والسلاح والأدوية والبنوك وغيرها، وينتقدون النظام المصمم بصورة تقصي أي طرف ثالث من المنافسة، في ظل نظام يرسخ تداول السلطة بين الحزبين، في حين لم ينتقد أحد النظام باعتباره "يزوّر" إرادة الناخبين، ما يعني الطعن في "مصداقية النظام" و"الثقة به"، والتي تعتبر أساس استقرار أي دولة ديمقراطية.