صحيح أنّ الطرفين أعلنا أنّ الاتفاقية لا يزال أمامها طريق طويل، وشاق، إلا أنّ المؤكّد هو أنّ المرحلة التي بلغتها المفاوضات التي تستأنف الشهر المقبل في الدوحة، بحسب ما كشفته المتحدثة باسم وزارة الخارجية القطرية، لولوة الخاطر، هي غير مسبوقة، لجهة تحديد بنود واضحة لمسودة اتفاق سلام تستعجله واشنطن في إطار مشروعها الانسحاب عسكرياً من هذا البلد، حيث خاضت أطول حرب في تاريخها (منذ 17 عاماً). ووفق المبعوث الخاص لوزير الخارجية القطري لمكافحة الإرهاب والوساطة في تسوية النزاعات، مطلق القحطاني، فقد ناقشت محادثات الدوحة، "الإطار الزمني للمفاوضات، بالإضافة إلى المسائل الأخرى المترتبة على الانسحاب، وتحقيق المصالحة الوطنية بشكل مستدام، واتفق الجانبان على مواصلة المحادثات الشهر المقبل في الدوحة، لحين التوصّل لاتفاق حول هذه المسائل الجوهرية".
"التقدّم الكبير" الذي تحدّث عنه كل من زلماي خليل زاد، ثمّ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، وردّده مسؤولون في حركة "طالبان"، ونائب رئيس مجلس الوزراء القطري، وزير الخارجية، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حصل بالفعل في اجتماعات الدوحة، خلافاً للاجتماعات السابقة، حتى وإن بقي أمامه "طريق شاق"، بحسب طرفي المفاوضات. ولعلّ أهم ما توصّل إليه الطرفان، الاتفاق على خروج القوات الأميركية والأجنبية من أفغانستان، وذلك مع إصرار واشنطن على بقاء جزء من قواتها، بذريعة حراسة المراكز الدبلوماسية الأميركية، وهو أمر رفضته "طالبان"، كما قالت مصادر فيها لـ"العربي الجديد". إلا أنّ مصدراً مقرباً من اجتماعات الدوحة قال أيضاً إنّ جزءاً من القوات الأميركية سيبقى في أفغانستان بصورة أو أخرى، أو بذريعة حراسة السفارة الأميركية والمراكز الدبلوماسية التابعة لها، وأن "طالبان" رفضت ذلك في العلن، لكنها قد تقبل به في نهاية المطاف، شرط أن يعلن الجانب الأميركي رسمياً، وفي العلن، الانسحاب الكامل، وليبقى هذا الجزء تحت أي غطاء آخر.
كذلك، من الأمور التي اتفق عليها الطرفان هو ألا تستخدم الأراضي الأفغانية ضدّ أي دولة أخرى، وهذا كان مطلب الجانب الأميركي ورضيت به "طالبان"، علاوةً على قطع علاقات الحركة بشكل كامل مع جميع الجماعات الإرهابية المسلحة، لا سيما تنظيمي "داعش" و"القاعدة". وهذا المطلب لم يكن أميركياً فحسب، بل تتمسّك به جميع دول المنطقة المعنية بالملف الأفغاني. وتشكّل هذه النقطة تحدياً كبيراً لـ"طالبان"، ذلك أنّ لها علاقات وطيدة في شرق أفغانستان وجنوبها مع حركة "طالبان" باكستان، وبعض من لا يزالون على قيد الحياة من أعضاء وقيادات تنظيم "القاعدة"، تحديدا في إقليم كنر، حيث إنّ هناك معسكرات لـ"طالبان" باكستان وقياديين من تنظيم "القاعدة" ينشطون بالتنسيق مع القيادة الميدانية للحركة الأفغانية، كما تدعي السلطات الباكستانية. إذاً، فإنّ القضاء على هؤلاء تحدّ لـ"طالبان"، خصوصاً أنّ القيادة الميدانية فيها تربطها علاقات قوية بهم.
وعن هذا الموضوع، يقول الإعلامي والناشط الأفغاني، سيد أقا ننكيال، لـ"العربي الجديد": "نخشى أن يكون هدف أميركا منحصراً في الوقت الراهن بتأمين خروج قواتها من أفغانستان، وأخشى أن يتكرر ما حصل إبان الانسحاب السوفييتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي"، أي أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها عن أفغانستان بعد الاتفاق مع "طالبان"، في إشارة إلى الخشية من اتساع الحرب الأهلية بشكل يخرج عن أي سيطرة، وهو ما حصل بعد الانسحاب السوفييتي وانتهى باستعادة "طالبان" سيطرتها الكاملة على هذا البلد.
الآن، بعدما انتهت تلك الجولة الناجحة نسبياً من الحوار بين ممثلي "طالبان" ومسؤولين أميركيين في الدوحة، عاد كل طرف للتشاور بشأن ما تم الاتفاق عليه وما سيتم التباحث بِشأنه في الجولة المقبلة في فبراير/شباط المقبل في العاصمة القطرية أيضاً. ويبدو أن المندوب الأميركي، زلماي خليل زاد، مهمته صعبة مقارنة بـ"طالبان"، خصوصاً أنّ أمامه مصلحتين: مصلحة أميركية، وأخرى أفغانية. والمصلحة الأولى تأمينها أسهل من الثانية، على اعتبار أنّ ضمان خروج أميركي آمن أمر ممكن، كذلك حال شرط واشنطن بألا تستخدم الأرض الأفغانية ضدّ أميركا مستقبلاً. لكن المهمة الصعبة في وجه خليل زاد، تتعلّق بالحكومة الأفغانية، فـ"طالبان" يصعب أن تعترف بها، وأن تتفاوض معها. كما أنّ الحكومة غير مستعدّة لأن تحلّ نفسها، وهذا ما أشار إليه الرئيس الأفغاني أشرف غني، أكثر من مرة، بل هو يريد أن تنضمّ "طالبان" للعمل السياسي من خلال المصالحة الوطنية، كما فعل "الحزب الإسلامي"، وهو شرط غير مقبول بالنسبة للحركة. إذاً، السؤال المطروح لدى الكثير من الأفغان يبقى حول مستقبل الحكومة الأفغانية إذا اتفق الأميركيون مع "طالبان" على تشكيل حكومة مؤقتة جديدة، وبالتالي تأجيل الانتخابات الرئاسية المقرّرة في الصيف المقبل، في ظلّ رفض الرئيس الأفغاني لذلك.
لكن إذا ما أصرّ غني على المضي قدماً في إجراء الانتخابات، كما صرح بذلك، ورفض فكرة الحكومة الانتقالية، سيكون هناك سيناريو مختلف، إذ قد يلجأ الأميركيون إلى التوافق مع أي مرشح آخر ضدّ الرئيس الحالي في الانتخابات، لتأليف حكومة انتقالية.
في المقابل، تبدو مهمة ممثلي "طالبان" وقيادتها أسهل بكثير من مهمة المندوب الأميركي، خصوصاً بعدما نظّمت الحركة صفوفها، إثر تعيين الملا عبد الغني برادرا رئيساً للمكتب السياسي ومستشاراً لزعيم الحركة في الشؤون السياسية، وهو معروف بتأييده للمصالحة. هذا بالإضافة إلى إجراء تغيرات أساسية كبيرة في قيادة الحركة الأسبوع الماضي، منها تغيير حكام الأقاليم ورؤساء اللجان المختلفة. ويُقال إنّ كل من أتى بهم برادرا هم من الذين يؤيّدون المصالحة ومستعدون لترك السلاح وخوض العمل السياسي.
لا شكّ أنّه لا يزال من السابق لأوانه الحديث عن اتفاقية شاملة بين الطرفين، بما أنه كما قال الناطق باسم "طالبان"، ذبيح الله مجاهد، في بيان له "هناك أمور معقدة ونحن بصدد التشاور بشأنها ثمّ العودة إلى الحوار مرة أخرى"، وهذا ما أشار إليه خليل زاد في تغريدة له قائلاً إنّ "الاتفاق على نقطة واحدة، لا يعني الاتفاق مادام ليس هناك اتفاق على كل شيء" ومنها ما يتعلّق بالحوار المباشر بين الأطراف الأفغانية، ووقف إطلاق نار شامل. كما تعتبر قضية الاتفاقية الأمنية بين أميركا وأفغانستان من جهة، وبين أفغانستان و"حلف شمال الأطلسي" من جهة ثانية، وقضية الأسرى، والقائمة السوداء لقيادات "طالبان"، من أهم النقاط التي سيتم طرحها في المستقبل.
لكن رغم كل ذلك، اعتبر وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في تغريدة على حسابه في موقع "تويتر"، أنّ "نجاح المرحلة الأولى من محادثات السلام الأفغانية في أجواء إيجابية في الدوحة، عكست جدية الجانبين" (الأميركي وطالبان)، داعياً "الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة كافة إلى توحيد وتنسيق الجهود في هذا الصدد ودعم الدوحة في مسعاها إلى نجاح وتسهيل المفاوضات".
وكان زلماي خليل زاد قد كشف في تغريداته أول من أمس السبت، عن مشاركة وزير الخارجية القطري شخصياً في المفاوضات، وذلك عندما كتب: "شكراً لحكومة قطر على مشاركتها البناءة وتسهيلها لهذه الجولة من المحادثات، لا سيما سعادة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية لمشاركته الشخصية".