على بُعد أسابيع من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية، المقررة في 23 إبريل/نيسان المقبل، طغت الفضائح القضائية بصورة غير مسبوقة على المشهد الانتخابي، فعتّمت على النقاش السياسي وباتت تهدد بإفراغ اللعبة الديمقراطية من محتواها السياسي والإيديولوجي. وذلك بعد اتهام بعض الأطراف القضاء والإعلام بتمييع الحملة الانتخابية وزرع حالة لا سابق لها من التشكيك في مصداقية النخبة السياسية، عبر ملاحقة المرشحين والكشف عن "عوراتهم" القضائية. غير أن أطرافاً أخرى تلقي باللائمة على بعض المرشحين "الذين لا يحترمون أخلاقيات العمل السياسي ويزجون بأنفسهم في قضايا مشبوهة، يضطر القضاء إلى التدخل والتحقيق فيها لكونها تدخل في صلب مهمته، ويجد الإعلام نفسه أيضاً مجبراً على تناولها وعدم التغاضي عنها لتأدية رسالته في الإخبار وتنوير المواطن والناخب".
في سياق الفضائح، فقد غرق المرشح اليميني فرانسوا فيون في قضية الوظائف الوهمية لزوجته واثنين من أبنائه، التي تكشفت في أواخر يناير /كانون الثاني الماضي. ووجه إليه القضاء الأسبوع الماضي الاتهام بتهريب أموال عامة وبالتواطؤ لإخفائها، ووسّع التحقيق ليشمل "استغلال النفوذ والاحتيال والتزوير"، وهي سابقة لمرشح رئيسي في تاريخ الانتخابات الفرنسية، باعتباره أول مرشح يخوض الرئاسيات في ظل توجيه الاتهام إليه. وكان الفصل الأخير في مسلسل فضائح فيون، ما كشفته أسبوعية "لو جورنال دو ديمانش" أنه "تلقّى هدية من صديق ثري، هو المحامي الفرنسي من أصل لبناني روبير برجي، عبارة عن بدلات فاخرة يتجاوز ثمنهما عشرة آلاف يورو". كما كشفت صحيفة "لو باريزيان" أن "ابني فيون، اللذين كانا بين عامي 2005 و2007 مساعدين برلمانيين ويُشتَبه في أنهما عملا بوظائف وهمية، تخليا عن غالبية أجورهما لذويهما عبر تحويلات مصرفية".
بدورها، وقعت مرشحة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف مارين لوبان، أسيرة مشاكل مع القضاء، ورفضت أخيراً استدعاءً من طرف القضاة مع احتمال توجيه تهمة إليها في إطار التحقيق في شبهة قيامها بدفع أجور سكرتيرتها الخاصة وحارسها الشخصي من أموال أوروبية، بموجب عقود مساعدين برلمانيين أوروبيين. وكان القضاء قد وجّه الاتهام إلى كاترين غريزيه، مديرة مكتب لوبان، بالاستغلال في تحقيق حول اتهام بالاحتيال في البرلمان الأوروبي بقيمة 340 ألف يورو. ورفع البرلمان الأوروبي عنها الحصانة البرلمانية في قضية أخرى، متعلقة بنشرها صوراً على موقع "تويتر" عن جرائم قتل لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
وعلى الرغم من هذه الاتهامات أكدت لوبان بأن "توجيه أي اتهام إليها لن ينعكس سلباً على ترشيحها". وهذا ما أظهرته فعلاً شعبيتها المتصاعدة في أوساط الناخبين، لكون المسائل القضائية التي تمسّها وتمسّ "الجبهة الوطنية"، غير متعلقة بتربح شخصي واستغلال النفوذ من أجل الإثراء الشخصي، في حين أن الأمر في حالة فيون مرتبط بعائلته مباشرة وبالإثراء غير المشروع ومصداقيته الأخلاقية وسمعته الشخصية.
من جهته، وقع المرشح الوسطي إيمانويل ماكرون أيضاً أسير الشبهات حول تورطه في قضية تهرّبٍ ضريبيٍ واستغلال موارد وزارة الاقتصاد، في إطار ترشحه للرئاسيات وتمويل تنقلاته، حين كان على رأسها في الحكومة الاشتراكية السابقة. وورد اسم ماكرون في ملف قضائي، بعد فتح نيابة باريس تحقيقاً أولياً بتهمة "المحاباة للاشتباه في سوء إدارة تنظيم زيارة رسمية في يناير 2016" حين كان وزيراً للاقتصاد. وعقّب ماكرون تعقيباً على ذلك بالقول إن "أخلاقي ليست موضع تشكيك"، معتبراً أن "الأمر ليس بأي حال شبيهاً بتوجيه تهمة مثلما هو الحال مع فيون ولوبان".
وفُتح التحقيق القضائي بشأن ماكرون إثر تقرير قدمته المفتشية العامة للمالية في الثامن من مارس/آذار الحالي، تضمن اشتباهها بحصول خللٍ في تنظيم هذه الرحلة إلى لاس فيغاس الأميركية، التي عُهد بتنظيمها إلى عملاق الاتصالات الفرنسي "هافاس" من دون طلب عروض. ووفقاً لأسبوعية "لوكانار انشينيه" التي كشفت هذه القضية، فإن كلفة هذه الزيارة لليلة الواحدة وصلت إلى 380 ألف يورو، بينها 100 ألف يورو، كلفة الإيواء في الفنادق. وطالبت شخصيات عدة من اليمين المحافظ ومن اليمين المتطرف بإخضاعه هو الآخر لتحقيق قضائي مثل الآخرين.
وكان المراقبون السياسيون تفاءلوا خيراً من عودة النقاش حول البرامج السياسية خلال المناظرة التلفزيونية الأخيرة بين المرشحين الخمسة الأساسيين، فيون وماكرون ولوبان وبنوا هامون وجان لوك ميلانشون، لكن سرعان ما تبدد هذا التفاؤل وعاد النقاش حول الفضائح القضائية إلى الواجهة. وهذه المرة من طرف فيون الذي شنّ هجوماً عنيفاً، يوم الخميس الماضي، على الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند، واتهمه بـ"الوقوف وراء تسريبات إلى وسائل الإعلام بشأن مشاكله مع القضاء وبإدارة جهاز سري يتحكم في القضاء والإعلام". وردّ عليه هولاند بقوة مشككاً في نزاهة مرشح "الجمهوريين"، و"افتقاده حداً أدنى من الكرامة والمصداقية".
وأكد هولاند أن "السلطة التنفيذية لم تتدخل منذ انتخابه في 2012، بتاتاً في أي مسألة قضائية، وكانت دوماً تلتزم باحترام استقلالية القضاء". ودخل القضاء بدوره على الخط بعد نشر وزارة العدل الفرنسية بياناً نددت فيه باتهامات فيون، وشدّدت على أن "هذا المرشح الرئاسي صوّت بشكل منهجي ضد كل نصوص القانون التي تعزز استقلال القضاء وشفافية الحياة السياسية".
وكان فيون اعتبر في تجمّعٍ انتخابيٍ أمام مناصريه بأنه "ضحية عملية اغتيال سياسي من طرف القضاء ووسائل الإعلام"، ورفع شعار "الاحتكام إلى الشعب بدل المؤسسات" بطريقة شعبوية، حين قال "بمعزل عن الإجراءات القضائية فإنني أحتكم إلى الشعب الفرنسي وإليه وحده، لأن الاقتراع العام، لا الإجراءات القضائية التي تقود إلى الاتهام، يقرر من سيكون رئيس الجمهورية".
كما شنّت لوبان هجوماً عنيفاً ضد القضاء واعتبرت أنها "ضحية اضطهاد"، ونددت كذلك بتوظيف القضاء "للتدخل في هذه الانتخابات الرئاسية". واتهمت لوبان الحكومة بـ"استخدام القضاء لعرقلة حملتها الانتخابية ومنعها من خوض الاقتراع الرئاسي". وذهبت إلى حدّ تهديد القضاة بالانتقام منهم في حال نجاحها في الانتخابات الرئاسية. واعتبرت أن "القضاء بات أداة في يد السلطة السياسية، التي توظّفه لمآرب سياسية خاصة"، مضيفةً بأن "دولة القانون ليست هي حكومة القضاة". وهذه التصريحات أثارت جدلاً كبيراً ودفعت جمعية القضاة الفرنسيين إلى انتقادها بشدة.