هدأت الأوضاع نسبياً في مدينة تطاوين التونسية، أمس الثلاثاء، وذلك لتشييع الشاب أنور السكرافي، الذي قتل، أول من أمس، جراء تراجع سيارة للأمن إلى الوراء، بحسب الرواية الرسمية، في غمرة المواجهات مع المحتجين. وأغلق الأنبوب الرابط بين حقل البرمة البترولي ومحطة "الكامور"، بعد قرار اتخذته الشركة، خوفاً من أي انفجار محتمل للأوضاع في المدينة. وخرجت مسيرة في مدينة دوز من محافظة قبلي تضامناً مع الأهالي في تطاوين، بينما كان مجلس النواب يتداول الأحداث ويرصد المواقف السياسية التي أصبحت مألوفة لدى التونسيين.
وعاين التونسيون، على امتداد يوم أمس، عبر الإذاعات والتلفزيونات والصحف، تبادلاً للاتهامات السياسية بخصوص الأحداث في تطاوين، من كل الأحزاب ونحو كل الأحزاب. واختلط الأمر على الجميع حتى لم يعد بالإمكان التمييز بين من في الحكومة ومن في المعارضة. وسقط حتى التقسيم المعروف بين معسكري الائتلاف والمعارضة، وتعالت الأصوات وخرجت عن تحفظاتها السابقة، لتسمي أحزاباً بعينها. وصدر الاتهام الأكبر عن نائب رئيس حركة النهضة، علي العريّض، الذي حمل "حركة مشروع تونس وحزب التحرير وبعض لوبيات الفساد والأطراف السياسية الأخرى مسؤولية الدفع نحو الفوضى في تطاوين". واعتبر العريض، في حوار على قناة "نسمة"، أن "التحركات الأخيرة ليست سلمية... بسبب إقدام عدد من المحتجين على قطع الطريق"، مستنكراً ما سماه "بالقتل والنهب والحرق وإخراج الاحتجاجات من منحاها الأساسي". وقال إن هناك "ثلاثة أنواع من المجموعات داخل الدولة. النوع الأول يسعى إلى حماية الدولة وأهداف الثورة. والنوع الثاني يدفع إلى إحداث الفوضى بحجة حماية الثورة. والنوع الثالث ممن كان يشرع للفساد بالأمس وأصبح اليوم يرفع شعارات تندد بهذه الآفة".
ورد عليه الأمين العام لحركة مشروع تونس، محسن مرزوق، مشيراً إلى أن نائب رئيس حركة النهضة "له هوس بمشروع تونس". واتهم مرزوق، في تصريح صحافي، حركة النهضة بأنها "تضع ساقاً في الاحتجاجات وأخرى في الحكومة". وكان وفد من حركة النهضة توجه، أول من أمس، إلى تطاوين لمحاولة تهدئة الأوضاع، بحكم تأثيرها الشعبي في المنطقة. ويبدو أن هذا التأثير كان سبباً في توجيه اتهامات للحركة بالمشاركة في الاحتجاجات، وانقسامها بين تأييد الحكومة من ناحية والاحتجاجات من ناحية أخرى، وهو ما دفع بالرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، في خطابه، لدعوة الأحزاب إلى التحكم بقواعدها، برغم أن قواعد النداء منفلتة أيضاً عن قياداتها، وكذلك بالنسبة إلى أحزاب أخرى.
ولا يعتبر توجيه الاتهامات إلى حركة النهضة جديداً، فمع كل تحرك في الجنوب، توجه إليها وإلى حزب الحراك (المؤتمر سابقاً) أصابع الاتهام، بحكم تأثيرهما الشعبي في المنطقة. وللتذكير، فقد حصلت حركة النهضة، في الانتخابات التشريعية في 2014، في دائرة قابس على 4 مقاعد، والاتحاد الوطني الحر والمؤتمر من أجل الجمهورية على مقعد لكل منهما، وفي دائرة مدنين حصدت النهضة 5 مقاعد، بينما فاز نداء تونس بمقعد وحيد، وكذلك الاتحاد الوطني الحر. وفي دائرة تطاوين فازت النهضة بـ3 مقاعد ونداء تونس بمقعد وحيد. وفي دائرة قبلي حصلت النهضة على مقعدين، والمؤتمر من أجل الجمهورية وحركة الشعب ونداء تونس على مقعد لكل منها. ويعتبر الجنوب التونسي تاريخياً معقلاً للمحافظين والقوميين العرب، بينما ذهب عدد منهم إلى المدرسة الدستورية بحكم مشاركتهم في معركة الاستقلال ضد المستعمر، في حين توجه آخرون إلى مناصرة صالح بن يوسف ضد الحبيب بورقيبة، ومنهم بعض "المرازقة"، في جهة دوز التي تعود بالأصل للرئيس السابق، منصف المرزوقي، برغم أنه ولد في قرمبالية شمال تونس. ولذلك توجه الاتهامات آلياً إلى النهضة وحزب الحراك بالوقوف خلف كل التحركات في الجنوب، وهو ما دفع القيادي في الحراك، عدنان منصر، إلى دحض هذا الاتهام من جديد. وقال، في تدوينة على صفحته، "إذا كانت للحكومة الشجاعة الكاملة والأدلة الثابتة في توجيه الاتهام للحراك بالوقوف وراء تدهور الوضع في تطاوين فإننا سننتظر بيانها ونتصرف على ذلك الأساس".
وخرج وزراء الحكومة بقوة هذه المرة لتسمية الأحداث بمسمياتها. ووجه المتحدث باسم قوات الحرس الوطني، خليفة الشيباني، اتهامات صريحة لأحزاب ومهربين، وكذلك وزير التشغيل عماد الحمامي، في حين اعتبر المتحدث الرسمي باسم الحكومة، إياد الدهماني، أن "ما جرى في تطاوين ليس تحركاً سلمياً...فعندما يتم مهاجمة مقر الولاية ومقرات الأمن وينهب المستودع البلدي ومستودع الديوانة هذا لم يعد تحركاً سلمياً". وردّ الدهماني، في تصريح إلى إذاعة شمس، على دعوات إسقاط الحكومة واتهامها بالفشل، معتبراً أنه "لا توجد ديمقراطية تتعامل مع هذا على أساس أنه تحرك سلمي، وما جرى أضر بتحركات المحتجين الذين يطالبون فعلاً بالتشغيل والتنمية". وتابع "هناك انتخابات حرة، ومن لم يعجبه الوضع يمكنه التصويت لمن يمثل رأيه وأفكاره. الشرعية الوحيدة هي شرعية النظام الديمقراطي". واعتبر أن ما حدث في تطاوين قد أضر بتحركات المحتجين المشروعة، فقد كانت صفحة تنسيقية اعتصام "الكامور" على امتداد يوم الإثنين توجه النداء تلو الآخر لتفادي الإضرار بالممتلكات، لأنها ملك للأهالي. وأشار إلى أن "السيناريو ذاته يتكرر، من حرق مقرات الأمن، واستهداف مخازن الجمارك ومستودعات البلدية، والاعتداء على الشرطة والحرس، وإتلاف الوثائق، ما يوجه اتهامات صريحة للمهربين وعدد من الخارجين على القانون. لقد صمد اعتصام أهالي تطاوين سلمياً على امتداد شهرين، ورفضوا كل توظيف سياسي، بل وطردوا أحزاباً من اجتماعاتهم، ما أدى إلى تعاطف واسع، شعبي وسياسي، لكنه سقط مع الأحداث الأخيرة بسبب الغموض المتعمد".
ولا يشك التونسيون في أن بعض كبار المهربين يقفون وراء هذه الاعتداءات بالذات، فقد كان الجنوب التونسي والوسط الغربي يعيش على امتداد عقود من التهريب مع ليبيا والجزائر، بسبب انعدام أي وسيلة أخرى للعيش الكريم، وقد تنامى هذا الأمر بعد الثورة. ولا يخفى على المتجول في مدن الجنوب مشاهد بيع البنزين المهرب والسلع الإلكترونية على قارعة الطريق. ويعرف التونسيون ما يسمى بـ"أسواق ليبيا" التي تجد فيها كل أنواع السلع. وإن كان الشباب العاطل هو من يقتات من هذه التجارة، فإنها خلقت أيضاً "بارونات" تهريب، أصبح لها الكلمة الفصل في بعض المدن. وأمام تداخل كل هذه المعطيات، وفشل كل الحكومات في التعاطي مع هذا الأمر، ينتظر التونسيون خروج السبسي، بعد عودته من السعودية، وتقييمه قرار حماية المنشآت من طرف الجيش، وكذلك رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وكيفية تعاطيه مع هذه الأحداث، لكنهم يعوّلون خصوصاً على مسلك يعيد الحوار والتفاوض مع المحتجين الشرعيين في تطاوين ودوز والفوّار وغيرها من المدن التونسية، وينهي فصول هذه الأزمات الدورية التي تعود كل مرة بنفس الأشكال.