مواجهة إيران
قرار ترامب، التراجع عن الانسحاب الكلي، تضمّن الإبقاء على 400 جندي يوزعون مناصفة في منطقتين؛ الأولى في المنطقة الآمنة التي يجري التفاوض عليها في شمال شرق البلاد، والأخرى في قاعدة الجيش الأميركي في التنف، قرب الحدود السورية مع العراق والأردن. وفي السياق، كان لافتاً ما نشرته مجلة فورين بوليسي، متحدثة عن نصر حاسم حققه مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، في معركة إثناء ترامب عن قرار الانسحاب الكلي من سورية، والإبقاء على جنود أميركيين في التنف. وأشارت إلى أن الحفاظ على الوجود في سورية، خصوصاً في التنف، التي ينظر إليها على أنها طريق إمداد إيراني محتمل عبر العراق إلى سورية، كان هدفاً لبولتون لأشهر عدة. وذكّرت بأنه، خلال الرحلة التي قام بها بولتون إلى المنطقة في يناير/كانون الثاني الماضي، والتي هدفت إلى طمأنة الحلفاء بأن الولايات المتحدة لم تتراجع عن استراتيجيتها لمواجهة العدوان الإيراني، تناقلت التقارير يومها أن بولتون ناقش مع المسؤولين الإسرائيليين خطة ترك القوات الأميركية في قاعدة التنف، في إطار تقليل نفوذ طهران في المنطقة.
ولفتت فورين بوليسي إلى أن ترك قوات صغيرة في كل من سورية والعراق "لمراقبة إيران" بدلاً من محاربة "داعش"، يثير أسئلة قانونية، على اعتبار أن القوات الأميركية تمكنت من محاربة تنظيم "داعش" أو تنظيم القاعدة، طوال السنوات الماضية، بناء على تفويض عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية (AUMF)، والذي تم توقيعه بعد أيام من أحداث 11 سبتمبر/أيلول، لكن القوات العسكرية الأميركية غير مصرح لها باستهداف الجهات الفاعلة التابعة للدول، مثل القوات الإيرانية والروسية والسورية وقوات النظام السوري، ما لم تتم مهاجمتها بما يستوجب الدفاع عن النفس. وبالتالي، فإنه في ظل عدم منح الكونغرس الإذن بـ"مهمة ضد إيران في سورية"، فإن التفويض القانوني للوجود العسكري الأميركي في سورية سيظل مرتبطاً بـ"داعش"، وهو ما يفسر حقيقة أن التصريحات العسكرية الأميركية تربط بين الاستمرار في سورية وبين جهود مكافحة الإرهاب لمنع عودة تنظيم "داعش".
المنطقة الآمنة
في غضون ذلك، لم تظهر بعد مفاعيل قرار ترامب بالإبقاء على جزء من القوات الأميركية في سورية، تحديداً لجهة مدى تأثير ذلك على الحلفاء الأوروبيين، وإقناعهم بالمشاركة "قوة متعددة الأطراف للمراقبة"، قوامها ألف عنصر، تنتشر في شمال شرق سورية، وتكون بمثابة قوات فصل بين تركيا وقوات سورية الديمقراطية.
وبينما لم تصدر مواقف من البلدان الأوروبية الرئيسية، تحديداً فرنسا وبريطانيا وألمانيا، تبدو تركيا، التي تصرّ على أن تتولى إدارة المنطقة الآمنة، حاسمة في مواقفها.
وفي السياق، جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقابلة مع محطتي "كانال دي" و"سي أن أن تورك" التلفزيونيتين المحليتين، التي أكد فيها أن أية منطقة آمنة ستقام في سورية على الحدود التركية، لا بد أن تكون تحت إشراف تركيا، لافتاً إلى أن أنقرة مضطرة إلى اتخاذ التدابير اللازمة من أجل ضمان أمنها. وبينما أكد أنه أجرى مباحثات هاتفية إيجابية مع ترامب حول الشأن السوري، شدد على أن بلاده لن تسمح بأن تكون الأراضي السورية ملاذاً آمناً للمنظمات الإرهابية، عقب الانسحاب الأميركي. كما اعتبر أن اتفاقية أضنة (الموقعة بين تركيا وسورية عام 1998)، تتيح لتركيا، بشكل صريح، ملاحقة المنظمات الإرهابية داخل الأراضي السورية. ولفت إلى أن إدلب تمتلك أهمية كبيرة، فهي تحتضن مئات الآلاف من السوريين، لا يمكن لتركيا أن تتحمل العبء في حال هجرة هؤلاء إليها. ولفت إلى أن بلاده تعمل على ضمان الهدوء في هذه المنطقة بالتعاون مع روسيا وإيران.
في غضون ذلك، لم تتضح بعد نتائج المباحثات التي أجراها وفد تركي رفيع بقيادة وزير الدفاع خلوصي آكار مع كبار المسؤولين الأميركيين حول المنطقة الآمنة ومجمل تفاصيل الانسحاب الأميركي من سورية.
ومن وجهة النظر التركية، يجب أن تمتد المنطقة الآمنة على طول الحدود التركية الجنوبية، وتحديداً في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، بعمق 32 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، على امتداد 460 كيلومتراً ستضم مدناً وبلدات مختلفة، تتبع لثلاث محافظات سورية هي الحسكة وحلب والرقة.
وأقامت تركيا، بالفعل، بعد عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، مناطق آمنة تصل مساحتها إلى أربعة آلاف متر مربع في الشمال السوري، وقد أعلنت أكثر من مرة عزمها على مواصلة إنشاء المناطق الآمنة، وصولاً إلى الجزء الشرقي من نهر الفرات. لكن التطورات المتسارعة في الملف السوري، بما في ذلك قرار ترامب الانسحاب من سورية والمفاوضات المستمرة بين أنقرة وواشنطن حول المنطقة الآمنة ومصير المسلحين الأكراد، عطلت المشروع التركي.
وتحاول الإدارة الأميركية، في الآونة الأخيرة، أن تقنع الحلفاء الأوروبيين بالالتزام بالاشتراك في تأسيس المنطقة الآمنة ومراقبتها لسحب إدارتها المفترضة من تركيا، لكن هذه الجهود اصطدمت برفض أوروبي تحديداً بعد قرار الانسحاب من سورية، ما ساهم في تراجعه جزئياً عن القرار، على أمل تبديل موقف الأوروبيين. وفي السياق، جاء حديث السناتور الجمهوري الأميركي البارز ليندسي غراهام، إلى شبكة "فوكس نيوز" الأميركية، عن أن الجنود المائتين سيحفزون الحلفاء الأوروبيين على نشر عدد أكبر من القوات، وربما "يجتذبون ألف أوروبي". وأضاف أن "آلاف الأوروبيين قتلوا على أيدي مقاتلين (من داعش) جاؤوا من سورية إلى أوروبا. المهمة تقع الآن على عاتق أوروبا"، مشيرا إلى أن "ثمانين بالمائة من العملية يجب أن تكون أوروبية، و20 بالمائة ربما نحن".
تساؤلات قانونية
وإلى جانب السجال المستمر حول حدود المنطقة ومن يشرف عليها، تتواصل التساؤلات حول مدى قانونية المنطقة الآمنة. وفي السياق، قال رئيس "تجمّع المحامين الأحرار" في سورية، المحامي غزوان قرنفل، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "ليس من حق أي دولة أن تقرر إنشاء منطقة آمنة للدفاع عن أمنها القومي في أراضي دولة أخرى، وليس هناك ما يدعم هذا السلوك في القانون الدولي، إلا إذا كان هذا السلوك تنفيذاً لقرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي".
وأوضح قرنفل "أما بالنسبة لتركيا، فيمكنها القيام بذلك فقط، تنفيذاً لاتفاقية أضنة، وضمن المدى أو العمق الجغرافي الذي حدده هذا الاتفاق"، في إشارة إلى إعطاء الاتفاقية الحق لتركيا بالتوغل في الأراضي السورية بعمق 5 كليومترات. وأضاف أن أي خطوات أخرى "تحتاج إلى توافقات دولية تغطيها بالاستناد لعجز الحكومة السورية عن أداء وظيفتها في حماية حدودها وعدم السماح بأن تكون منطلقاً لأعمال عدائية ضد دولة أخرى".
من جهته، قال المحامي اللبناني طارق شندب، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "المنطقة الآمنة تعني ألا يسمح فيها للقوات البرية أو للطيران بأداء أي عمل عسكري بهدف تأمين وجود النازحين ومنع استهدافهم من أي طرف. وهي تتطلب موافقة الأطراف المعنية، خاصة تركيا، باعتبارها دولة حدودية، إضافة إلى الأمم المتحدة".
وأكد شندب أن المنطقة الآمنة "هامة لحماية اللاجئين من إرهاب النظام وطيرانه ومليشياته، ومنع تدفّق المزيد منهم إلى أوروبا، فضلاً عن إمكانية عودة بعض اللاجئين من دول الجوار إلى هذه المنطقة". ورأى أن "إقامة هذه المنطقة ضرورة قانونية وأخلاقية لتركيا وكل دول الجوار، وللأكراد، وعموم الشعب السوري، وكل من تهمه حياة الناس وسلامتهم".