مثل موريس أودان، الآلاف من الجزائريين لا يعرف مصيرهم منذ ذلك الزمن الأحمر، ومثل عائلة أودان آلاف العائلات الجزائرية وعائلة الزعيم الثوري الكبير العربي بن مهيدي الذي قتل تحت التعذيب، تنتظر هي الأخرى زيارة شجاعة من الرئيس ماكرون ذات يوم، باسم التعذيب الذي كان واحداً أيضاً، ويد التعذيب والأدوات التي كانت هي نفسها، وباسم المصير الذي كان واحداً بين أودان بن مهيدي. وفي السردية التاريخية لا فرق بين أودان وبن مهيدي، كلاهما تبنى القضية الوطنية ومن موقعه النضالي والإنساني، وناهض الضيم والظلم الاستعماري بأدواته، لكن السؤال الذي يطرح في السياق، لماذا أقرّ ماكرون بمسؤولية فرنسا عن مقتل موريس أودان تحت التعذيب ولم يفعل تجاه بن مهيدي ورفاقه الشهداء الجزائريين الذين كان مصيرهم مماثلاً؟
لا تمارس الحكومات الإنشاء في التاريخ، ولا تعترف الدول بمسؤولياتها عن جرائم ارتكبتها جيوش أو أجهزة باسمها في فترات معينة من التاريخ بسهولة، يجب أن يكون دائماً ثمة ما يفرض عليها أو يدفعها إلى ذلك، مصالح السياسة أو مصالح الاقتصاد أو ضغط مدني. في عام 1993، أقرّ الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران 16 يوليو/تموز يوماً وطنياً لذكرى اليهود ضحايا حملة "فال فايف" عام 1942، وأقرّ خلفه الرئيس جاك شيراك بمسؤولية فرنسا في ترحيل اليهود إلى المعتقلات. وفي يوليو 2012، اعترف خلفه الرئيس فرانسوا هولاند بجرائم فرنسا ضد اليهود، لكن الغريب أن هذه الإقرارات المتتالية لثلاثة رؤساء فرنسيين، هي عن جرائم ارتكبتها فرنسا المحتَلَة تحت الحكم النازي. في المقابل، ترفض فرنسا الاعتراف الصريح والكامل بجرائم ارتكبها المحتل الفرنسي في الجزائر.
حتى وإن بدت الجزائر الرسمية مزهوة بتطور الموقف الفرنسي باحتشام من ظلام وظلم الحقبة الاستعمارية، لكنها في الحقيقة لم تفعل، خلال العقود الخمسة التي تلت الاستقلال، أو لم تستطع فعل ما يجب لإجبار فرنسا على الاعتراف الكامل والصريح عن جرائم الإبادة. لا تزال الجزائر مكبلة إزاء انتزاع ثلاثية الاعتراف بالجرائم ضد الأرض والإنسان، والاعتذار عن سنوات الضيم الاستعماري، والتعويض المادي والمعنوي. أكثر من ذلك، لا تزال جماجم المقاومين في متحف باريسي، والأرشيف في مكان ما في باريس، وآثار الإشعاعات النووية تهلك النسل والحرث جنوب الجزائر، والألغام التي زرعتها فرنسا في التلال والتخوم تقتل الجزائريين بين الحين والآخر.
ثابت العلاقات الدولية يقول إن الدول التي لا تزال تورد القمح والدواء ويعالج مسؤولوها في الخارج لا تستطيع أن تشارك في صياغة محددة للعلاقات البينية، وليس في مقدورها بعد أن تحدد قرار توقيت المبادرة بفتح ملف أو طي صفحة تاريخ، ذلك أن التاريخ قضية سيادية ومعركة ترتبط أيضاً بمعركة السيادة في العلم والتكنولوجيا والقمح والدواء.