ووضعت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، السودان ضمن قائمة الدول الراعية الإرهابَ، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1993، وذلك توجساً من التوجهات الإسلامية لحكومة الخرطوم، وهو الأمر الذي تجلّى بالنسبة إلى واشنطن من خلال استضافة السودان حركات وقيادات تصفها الولايات المتحدة بالمتشددة، أبرزها زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، الذي أقام في السودان حتى عام 1996، قبل أن يغادر إلى أفغانستان.
وفي عام 1997، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية مباشرة على السودان، ألقت بظلالها السلبية على الوضع الاقتصادي المتهالك أصلاً، فضلاً عن عقوبات أعلنت عنها الإدارة الأميركية منذ اليوم الأول لتولي حكومة الرئيس عمر البشير في 1989 الحكم، وتمثّلت في وقف تقديم القروض والمنح للحكومة السودانية، وذلك بموجب الدستور الأميركي الذي يمنع الدعم عن الحكومات التي جاءت إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية.
وطيلة تلك العقود، حاول السودان تحسين علاقته مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تمّ السير فيه بجدية نهاية تسعينيات القرن الماضي، من خلال تعاون أمني مباشر في مجال مكافحة الإرهاب، إذ تبادل الجانبان المعلومات والزيارات السرية والعلنية. لكنّ التطوّر الأبرز على الصعيد السياسي كان رعاية الولايات المتحدة ضمن دول أخرى، مفاوضات السلام في جنوب السودان، والتي انتهت بإقرار حقّ تقرير المصير للجنوب في وثيقة اتفاق سلام شامل، جرى التوقيع عليها في العام 2005، ما مهّد الطريق لانفصال الجنوب في العام 2011.
ومع ذلك، كانت الحكومة السودانية تأمل الحصولَ على حوافز وعدت بها واشنطن كثيراً، أقلها حذف اسم السودان من قائمة الإرهاب، ورفع العقوبات الاقتصادية عنه، وإعفاؤه من الديون.
غير أنه مع نهاية العام 2015، بدأ حوار مختلف بين الخرطوم وواشنطن، وبمحاور وأزمان محددة، قاد في النهاية إلى اتخاذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراراً في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، بإلغاء العقوبات الاقتصادية على السودان، وهو القرار الذي لم تحصد الخرطوم ثماره بسبب استمرار الإبقاء على اسم البلاد ضمن قائمة الدول الراعية الإرهابَ، والذي يثير مخاوف المنظمات الدولية الاقتصادية والمالية، في التعامل مع السودان. لذا سعت الخرطوم طوال العام الحالي إلى تدشين حوار جديد مع واشنطن لغرض إلغاء هذا التنصيف "الإرهابي".
ويوم الإثنين الماضي، حطت طائرة وزير الخارجية السوداني، الدرديري محمد أحمد، في الولايات المتحدة، ليبدأ في اليوم التالي مباشرة، مرحلة جديدة من الحوار مع واشنطن، وهو في ذهنه بند واحد يؤرق مضجع حكومة الخرطوم.
ولم تتردّد واشنطن من جهتها، مطلقاً في التعهّد بالقيام بالخطوة، لكنها وضعت شروطاً، أملتها على الوزير السوداني، أولها توسيع التعاون في مكافحة الإرهاب، وثانيها تعزيز حماية حقوق الإنسان وممارساتها، بما في ذلك حرية الدين والصحافة، إضافة إلى تحسين وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من مناطق النزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، مع وقف الأعمال العدائية الداخلية، وخلق بيئة أكثر ملاءمة للتقدّم في عملية السلام في السودان، واتخاذ خطوات لمواجهة الأعمال الإرهابية، والالتزام بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بكوريا الشمالية.
في المقابل، أعلن السودان ترحيبه بهذا الإعلان وبالرغبة الأميركية في إلغاء تسمية السودان كدولة تقوم برعاية الإرهاب، وأكد في بيان أصدرته وزارة الخارجية، جاهزية الخرطوم واستعدادها للانخراط في مسارات المرحلة الثانية وصولاً إلى الأهداف المرجوة.
وقد تبدو الشروط الأميركية الجديدة، سهلة جداً بالنسبة إلى الخرطوم، بحسب تقدير البعض، ما يرفع من وتيرة التفاؤل، خصوصاً أن السودان يمضي عملياً في تنفيذ بعضها منذ سنوات، لا سيما في ما يتعلّق بتوسيع التعاون في مجال مكافحة الإرهاب. إذ تستند الخرطوم في ذلك إلى أرضية صلبة بدأتها عام 1999 بتبادل المعلومات في هذا الإطار، في ظلّ التنسيق الأمني في عدد من الملفات، حتى باتت الاستخبارات الأميركية أكثر رضى على الخرطوم، بل أضحت الأعلى صوتاً، من بين الأجهزة الأميركية، في المطالبة بتخفيف وطأة العقوبات عن السودان، لتشجيعه على المضي في المزيد من التعاون الأمني، خصوصاً في ملفات إقليمية.
وربما كان الملف الليبي هو الوحيد الذي لا يحدث فيه تنسيق بين الطرفين، إذ تتباين مواقفهما حوله، في ظلّ احتفاظ السودان بعلاقة قد تكون جيّدة من الحركات الإسلامية وعلاقة فاترة إلى حدّ بعيد مع اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر. وبالتالي ربما يصبح أي توسيع في مجال مكافحة الإرهاب يعني الملف الليبي لا سواه.
كذلك، يبدو شرط وقف الأعمال العدائية الداخلية وخلق بيئة أكثر ملاءمة للتقدّم في عملية السلام في السودان، شرطاً سهلاً بالنسبة إلى الحكومة السودانية. فمنذ سنتين، أعلنت الخرطوم وقفاً لإطلاق النار على الجبهات كافة، وبادلتها الأطراف المحاربة الالتزام بوقف إطلاق النار، وهو الشيء الذي حقّق استقراراً نسبياً في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور. كما أنّ وساطة الاتحاد الأفريقي التي يقودها الرئيس الجنوب أفريقي الأسبق، تامبو امبيكي، تسعى هذه الأيام لإعادة إنعاش المفاوضات المتجمّدة منذ سنوات، وقد نجحت الوساطة قبل أيام في الجمع ما بين مساعد الرئيس، فيصل حسن إبراهيم، وعبد العزيز الحلو، رئيس أبرز الحركات المسلحة التي تنشط في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وهناك تقارير صحافية تتحدّث كذلك عن اتصالات سرية أُجرِيت بين مسؤولين حكوميين وزعماء جماعات تمرّد في دارفور، في الوقت الذي أعلن رئيس جنوب السودان، سلفا كير، تبنيه وساطة لتقريب وجهات النظر بين الحكومة السودانية ومتمرديها. وإذا ما استمرّ تنفيذ وقف إطلاق النار وتحقّق تقدّم سياسي في المفاوضات، فتلقائياً يتحقّق شرط آخر من الشروط الأميركية، وهو المتعلّق بوصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين في مناطق النزاع.
ويبقى الشيء الوحيد الذي يثير مخاوف البعض، هو أن تكون هناك شروط أخرى تحت الطاولة، على غرار ما حاول أن يصرّح به نائب وزير الخارجية الأميركي، جون سوليفان، أثناء زيارته الخرطوم، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قبل نحو شهر، حول قرار ترامب بإلغاء العقوبات الاقتصادية على السودان، وذلك حينما طرح على بعض المسؤولين السودانيين فكرة عدم ترشّح البشير لانتخابات عام 2020، وهو المقترح الذي ردّ العلاقات السودانية - الأميركية إلى الوراء كثيراً، وإذا ما تكرّر أو قدّمت مقترحات قريبة منه، فستحدث الرَدّة ذاتها أو أسوأ منها.