تحلّ اليوم الأحد، الذكرى الثالثة لاختطاف وحرق الشهيد الفتى محمد أبو خضير. ففي المكان ذاته الذي كان يجلس فيه محمد أمام محل الأدوات الكهربائية الذي يملكه والده، شيّدت العائلة نصباً تذكارياً يجسّد تاريخاً جديداً في حياة عائلة وشعب ذاق مرارة الجريمة وتجرعها. منذ ثلاث سنوات كان كل ذنب محمد أنه تطوع مسرعاً ليرشد قتلته إلى طريق تل أبيب، فبات طعماً خطّط له القتلة، فحملوا الفتى المسكين عنوة في سيارتهم، واقتادوه إلى غابة في قرية دير ياسين المدمرة غرب القدس المحتلة، وأحرقوه حياً.
مدخل بيت الشهيد قرب مسجد شعفاط، شمال القدس، يزدحم بصور وبوسترات محمد، وفي صالون البيت وقف والدا الشهيد أمام العشرات من الدروع التي تحمل صورة الفتى وتشيد بعائلته. لم تستثن من ذلك منطقة جغرافية في فلسطين أو خارجها، ومن بين ما تحمله الدروع من أسماء دلال المغربي، وفصائل فلسطينية. وفي التفاصيل عن اختطاف نجله، روى والده حسين أبو خضير ما جرى وكأنه حدث اليوم، فقال: "كان محمد قد عاد عند الساعة الحادية عشرة ليلاً إلى المنزل، بعد أن أتم مع رفاقه وأبناء بلدته تزيين شوارع شعفاط وحاراتها بأضواء الزينة احتفاء بقدوم شهر رمضان. كان يفعل ذلك كل عام. وحين أتم السحور خرج كعادته ينتظر لحاقي به لنؤدي صلاة الفجر ومن ثم نفتح محل بيع الأدوات الكهربائية ونجلس سوياً حيث كان يعينني في إدارة شؤون المحل".
وأردف قائلاً: "اتصلوا بمحاميّ مهند جبارة وأبلغوه بأن الجثة تعود لمحمد، وطلبوا منه الحصول على موافقة بتشريحها. في البداية رفضت، لكن جبارة أقنعني بضرورة التشريح، فوافقت شرط حضور طبيب فلسطيني العملية، وهو ما تم فعلاً. وحضر التشريح مدير معهد الطب الشرعي في أبو ديس – جامعة القدس، صائب العالول، وكانت النتيجة أن محمد حرق وهو حي، بدليل العثور على كميات كبيرة من الدخان في رئتيه".
كان الإعلان عن استشهاد محمد بهذه الطريقة البشعة، سبباً في اندلاع انتفاضة شعبية سميت بانتفاضة "الشهيد أبو خضير"، عمّت القدس بجميع أحيائها. وكانت قرية شعفاط، مسقط رأس الشهيد، نقطة الانتفاض ضد الاحتلال ومستوطنيه. وهاجم السكان الغاضبون خط سكة الحديد الذي يخترق قريتهم ويمر بمحاذاة منزل الشهيد وعطلوه لأشهر طويلة، فيما أصيب العشرات خلال المواجهات اليومية التي كانت تشهدها القرية وأحياء القدس، وكادت الأمور تنفلت من عقالها ليس في القدس وحدها بل داخل المدن والبلدات الفلسطينية في الداخل المحتل، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولفت الوالد إلى معاناة أخرى على مدى السنوات الثلاث من فقدان محمد، وتتمثل في "38 جلسة من المداولات القضائية في محاكم الاحتلال، إلى أن صدرت الأحكام على القتلة، وهي أحكام لا ترقى إلى مستوى الجريمة البشعة"، كما وصفها والد الشهيد. وأضاف أن "معاناتنا في ذلك الوقت لا يمكن وصفها بالكلمات. لك أن تتخيلها قبل التئام جلسة المحكمة وخلالها وبعدها. وحين لا تحتمل استماع إفادات القتلة وهم يروونها بالتفصيل عن عملية الاختطاف والخنق ثم الحرق الذي تعرض له ابننا وصراخه بينما كانت النيران تلتهمه. كانت تلك المداولات مأساوية بالنسبة لنا. وضاعف من مأساويتها محاولات محامي القتلة الادعاء بأن القاتل الرئيسي، يوسف بن حاييم، مختل نفسياً وعقلياً لتبرئته من جريمته الحقيرة، لكن ما أظهرته المعطيات والدلائل وشهادات الأطباء أن القاتل بكامل وعيه، بل إنه درب شركاءه على كيفية ارتكاب الجريمة قبل وقوعها. وفشلت جهوده في الحصول على شهادات من خبراء نفسيين إسرائيليين ليقدمها إلى المحكمة، في حين أحضرنا نحن أربعة أطباء نفسانيين روس أكدوا أنه غير مجنون، وأنه في كامل قدراته العقلية".
واستشهد المستشار القانوني لوزارة جيش الاحتلال المحامي آحاز بن آري، بتوصيف المحكمة العليا حادثة قتل الفتى أبو خضير بكونها "شاذة، وبأن هناك فرقاً بين ما يشهده الوسط اليهودي من عمليات ضد العرب، وما ينفذه العرب ضد اليهود". لكن هذا الرد، وما تلاه أيضاً من ادعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه، بأن بيوت القتلة اليهود لن تهدم لأنهم "مجموعة هامشية"، دفع بوالد الشهيد إلى الاستمرار في الدعوى ضد وزارة جيش الاحتلال، وستنظر المحكمة الإسرائيلية فيها خلال الأسبوعين المقبلين.
والدة الشهيد محمد تحدثت لـ"العربي الجديد"، عن ذكرى مولده في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول، وعن دراسته في المدرسة المهنية "عمل" في بيت حنينا، حيث أنهى صف الحادي عشر تخصص كهرباء قبل استشهاده. وكان في الترتيب الخامس بين إخوته، أكبرهم: آية (27 عاماً)، ثم مي (25 عاماً)، وفرائد (23 عاماً)، وفاطمة (21 عاماً)، ومحمد (16 عاماً)، ثم سيف الدين (15 عاماً).
وتذكرت آخر لحظة جمعتها مع نجلها: "كان بالكاد حضر من تزيين شوارع القرية بزينة رمضان، وتناول سحوره. ثم حمل نفسه وبحوزته قنينة مياه، ثم أخبرني بأنه سيخرج". كانت تلك آخر اللحظات وآخر ما تفوّه به وهو يودع والدته دون أن يدرك ما ينتظره من مصير على يد قتلته.
كانت اهتمامات محمد كثيرة، كما تقول والدته: "فقد التحق مبكراً في (فرقة سيدي حسن) للدبكة الشعبية، وقد سميت هذه الفرقة بهذا الاسم نسبة إلى الجد الأكبر للعائلة حسن أبو خضير، وتضم في عضويتها عشرة من أقرانه ممن هم في سنه".
وأفادت الوالدة بأن "محمد كان يحلم باقتناء سيارة بعد أن يجتاز امتحاني الفحص النظري والعملي". مع العلم أن الوالدة لا تزال تحتفظ بمعاملة الفحص النظري للسياقة والمسجلة باسمه. أما حلمه الأكبر، فهو إكمال تعليمه الجامعي في تخصص الكهرباء بألمانيا وكان والده على استعداد لإيفاده إلى هناك للدراسة والتخصص. والدة محمد لا تزال على عهدها لأصدقاء نجلها الشهيد الذي كان يصطحبهم من حين لآخر إلى منزل العائلة في أريحا للسباحة. ومنذ استشهاد محمد تصطحب بعض هؤلاء الأصدقاء إلى هناك كما كان يفعل نجلها في حياته. وذكرت الوالدة صراخها بعد نطق القضاة بالحكم على القتلة: "لم تعطوني حق محمد. أنتم بحكمكم هذا حرقتم محمد من جديد. أنتم لا يوجد لديكم عدل".