الانتخابات الإسرائيلية (5): مواجهة بين جناحي اليمين "الناعم" والشعبوي

01 فبراير 2019
لم يخرج غانتس عن حدود "الإجماع الإسرائيلي"(جاك غويز/فرانس برس)
+ الخط -
"لا يمين ولا يسار. إسرائيل قبل الجميع"، هو الشعار الذي حاول ويحاول الجنرال بني غانتس عبره تسويق نفسه وحزبه في معركة الانتخابات الإسرائيلية المقررة في التاسع من إبريل/ نيسان المقبل. شعار سرعان ما ظهر زيفه بعد أن خرج الجنرال عن صمته مساء الثلاثاء ببرنامجه الانتخابي، ليتضح أن ما يؤمن به الرجل لا يخرج عن حدود "الإجماع الوطني الإسرائيلي"، كما عرفته إسرائيل في حكومتي الوحدة الوطنية الأشهر؛ إذ كانت الأولى في عام 1984 (تناوب على رئاستها شمعون بيريز وإسحاق شمير) والثانية في عام 1988 (أيضاً بالتناوب بين شمير وبيريز)، لكنها حُلت عام 1990 عندما حاول بيريز تشكيل حكومة ائتلاف بقيادة حزب "العمل" بدلاً من تطبيق اتفاق التناوب مع "الليكود"، وفشل في ذلك، فيما نجح شمير في تشكيل حكومة "الليكود" برئاسته حتى عام 1992.
ما جاء في خطاب غانتس، لجهة طروحاته السياسية، لم يخرج عن تلك المبادئ التي اتفق عليها حزب "العمل" آنذاك مع "الليكود"، باستثناء شرط "لا للمفاوضات مع منظمة لتحرير"، الذي بات غير قائم بفعل اتفاق أوسلو.

والمواقف المقصودة، والتي أعلنها غانتس هي: تعزيز الكتل الاستيطانية، وعدم الانسحاب من منطقة غور الأردن، وعدم الانسحاب من هضبة الجولان، وإبقاء القدس المحتلة "كلها" تحت السيادة الإسرائيلية. هي مواقف لا يمكن بأي حال تصنيفها في خانة مواقف الوسط بقدر ما هي مواقف الإجماع في المجتمع الإسرائيلي، أو يمكن القول اليوم، في ظل المغالاة في اليمين الاستيطاني والديني ورياح الشعبوية، أنها مثلت وتمثل الحد الأدنى الذي وافق عليه اليمين الإسرائيلي التاريخي قبل نمو تيار الصهيونية الدينية وحزب "هتحيا" سابقاً. وهي أيضاً تمثل المواقف التاريخية لحزب "العمل" على تسمياته المختلفة، "أحدوت هعفودا"، "مباي"، و"رافي" (حزب دافيد بن غوريون عندما انشق عن حزبه الأم)، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار المبررات والمسوغات التي ساقها الحزبان في التمسك بنقاط الإجماع هذه. فحزب "العمل" غطى طمعه في الاستيطان ورفض الدولة الفلسطينية بمبررات "أمنية"، ولا سيما استيطان قمم الجبال في الضفة الغربية وغور الأردن وفق خطة يغئال ألون. في المقابل، تحدث "الليكود" عن "الحق التاريخي" من جهة، وبرر تنازله وإحجامه عن الضم الرسمي والفعلي بعد صعوده للحكم منفرداً أول مرة عام 1977 بعدم الرغبة في إثارة العالم ضد إسرائيل، وتكثيف الجهود في مواجهة طروحات المؤتمر الدولي الذي كانت تخشى إسرائيل من الذهاب إليه خوفاً من فرض حل أممي عليها.

لكن عند تجاوز هذه المواقف التي أعرب عنها غانتس، والتي شكّلت عملياً استعادة وبعث الحياة من جديد بنقاط "الإجماع الوطني"، فإنه لا يمكن إغفال اللغة السياسية التي اختارها في حديثه الذي انتقى تعابيره بعناية كاملة وبشكل مدروس، ليبقى في حدود منطقة الإجماع التي لا يمكن حتى لأنصار حزب "العمل" الاعتراض عليها، بل ربما يدفعهم لتبنيها من دون أي شعور بالانزياح يميناً، لأنها تعكس المواقف التاريخية لهذا الحزب.

ولعل أخطر عبارة استخدمها غانتس في خطابه، والتي تعكس أن حزبه الجديد هو من صلب اليمين الإسرائيلي، تعبير "أرض إسرائيل كلها"، في حديثه عن إبقاء المسؤولية على الأمن في أي تسوية إقليمية مستقبلية، أولاً، وغياب أي إشارة أو تعبير عن "تسوية حل الدولتين" ثانياً. ومع هذا التغييب، كان أيضاً لافتاً عدم وجود أي إشارة أو تلميح للعامل الديمغرافي، والمخاوف من فقدان إسرائيل لأغلبيتها اليهودية بفعل استمرار الوضع القائم. في المقابل، تبنّى غانتس عملياً مقولات اليمين الإسرائيلي، من بنيامين نتنياهو وحتى أفيغدور ليبرمان، بأنه لا مجال في المرحلة الحالية للتوصل إلى تسوية سلمية، وعليه سيعمل على تعزيز الاستيطان في الكتل الاستيطانية والإبقاء على الجولان وإبقاء القدس الموحّدة تحت السيادة الإسرائيلية.

هذه التعهدات تطمئن اليمين الاستيطاني "الناعم" في إسرائيل، لأنها تتحدث عن حالة إجماع يقبل بها اليسار منذ طرح أحد أبرز نوابه، وأحد أبرز نشطاء "حركة السلام الآن" في أواسط التسعينيات تحت حكومة إسحق رابين الثانية، وهو دادي تسوكر، عام 1995، فكرة الإبقاء على الكتل الاستيطانية، تحت مسمى جيوب إسرائيلية. في المقابل، فإن هذه التعهدات أيضاً تهدئ من "قلق" ما تبقّى من يسار في إسرائيل من "هجمة استيطانية شعواء وضم رسمي للمناطق المصنفة ج"، من الضفة بحسب تقسيمات اتفاق أوسلو.

لهذا كله، جاءت الاستطلاعات التي أجريت غداة خطاب غانتس، بلا مفاجأة، عندما منحته بين 21 و23 مقعداً من دون أي تحالف باستثناء تحالفه مع الجنرال الأسبق، موشيه يعالون، الذي دفعه نتنياهو قبل عامين لترك حقيبة الأمن، وسرعان ما وجد نفسه خارج "الليكود" أيضاً.
لكن يعالون ليس الجنرال الوحيد، أو للدقة ليس المؤشر الوحيد لهوية اليمين الناعم، غير الشعبوي، في حزب غانتس. وفيما لا تبرز في صفوف غانتس أسماء من اليسار أو الوسط، فإن اثنين ممن التفوا حوله يمثّلان ما يُسمى "اليمين الناعم"، أي اليمين التاريخي القديم، الذي يؤمن بالاستيطان كلياً، ولكن من دون مظاهر الفظاظة والتحريض الأرعن على اليسار وعلى مؤسسات الحكم، سواء مثلتها الشرطة أم سلك القضاء، أو حتى الصحافة، وهما الكاتب الصحافي يوعز هندل، والمحامي تسفي هاوزر. هذان الشخصان جاءا من صلب "الليكود" واليمين، بل من ديوان نتنياهو، فقَد كان الأول من مستشاري نتنياهو الإعلاميين، في الماضي، وشغل الثاني حتى قبل عامين تقريباً منصب سكرتير الحكومة.


يمثل الاثنان عملياً، وهذا المراد من ضمهما لحملة غانتس، "اليمين الناعم"، الدبلوماسي، الذي يصر "على حق اليهود التاريخي في فلسطين كلها"، ويتغنّى بمقولة حركة "بيتار" التاريخية "للأردن ضفتان، هذه لنا وتلك أيضاً"، وهي الحركة التي مثلت حتى النكبة تيار الصهيونية التصحيحية بقيادة زئيف جابوتينسكي، والتي تؤمن بنظرية جابوتينسكي حول الستار الحديدي والتفوق العسكري طريقاً لبقاء إسرائيل، والدعوة للنزاهة في الحكم ورفض الفساد والمحسوبيات، واحترام سلطة القانون. ولكن في المقابل، ولو من باب التصريح، تقول بنبذ التحريض الأرعن والأهوج، والاعتراف بحقوق الفرد (للفلسطينيين) والتغنّي بمنح المساواة التامة وحتى وصول العربي لأرفع المناصب، ولكن بصفة المواطن الفرد وليس بفعل الهوية القومية له، وهي مقولات يتغنّى بها هؤلاء، ومعهم مثلاً، الرئيس الإسرائيلي الحالي، رؤبين ريفلين، كشعارات براقة لا غير، لمواجهة الشعارات لتاريخية للحركة العمالية.

كل ذلك مع ما تبدو عليه تركيبة حزب غانتس لغاية الآن من رموز من اليمين "الأبيض" (الأشكنازي) التاريخي، من دون رموز شرقية، يعزز الاعتقاد بأن الحزب الجديد يسعى لأن يكون استمراراً أو بعثاً لليمين القديم (بلا صفات وسمات اليمين الحالي الذي يمثله الليكود من شعبوية وتحريض وعدوانية وفظاظة) مع استمالة و"جذب" ما كان يسمى بالصقور في حزب "العمل"، وهي الشرائح اليسارية التي كانت تقدس الأمن، أو تختبئ وراء قدسية الأمن، وكل ما ربطها باليسار هو البعدان الاجتماعي والاقتصادي في طروحات اليسار التاريخية، وليس بالضرورة الموقف السياسي.

يقود هذا عملياً إلى فهم النتائج الأولية للاستطلاعات التي تمنح غانتس في حال تحالفه مع يئير لبيد تحت رئاسة غانتس 35 مقعداً. ولكن المعطى الآخر الذي لا يقل أهمية هو نسبة التعادل بينه وبين نتنياهو في ردود المستطلعة آراؤهم على سؤال: من الأكثر ملاءمة لمنصب رئيس لحكومة، إذ تعادل الاثنان بنسبة 42 في المائة لكل منهما حسب استطلاع شركة الأخبار، وحصل غانتس على 35 في المائة مقابل 36 في المائة لنتنياهو حسب استطلاع آخر.
يعني هذا المعطى أن اليسار في إسرائيل، ومرشحيه (حتى في حال اعتبار وتصنيف زعيم حزب الوسط "ييش عتيد"، يئير لبيد، في خانة معسكر اليسار)، لم يعد ذا صلة بهذه الانتخابات إلا كقوة دعم لصالح غانتس لتحقيق حلم إطاحة نتنياهو. وبالتالي فإن المعركة الانتخابية، في حال نجح غانتس في تثبيت هذا التأييد الأولي له، لن تكون بين اليسار واليمين، بل ستدور عملياً بين "اليمين الناعم"، الدبلوماسي، وبين اليمين الفظ والشوفيني والعنصري الذي يمثّله نتنياهو.

مع ذلك، فإن النتائج التي حققها غانتس في الاستطلاعات، وإن كانت تمنحه أملاً في أن يكون بديلاً ممكناً لنتنياهو، إلا أنها تبقى مرهونة بتطورات المعركة الانتخابية والاصطفاف والتحالفات اللازمة له مع حزب "ييش عتيد" وربما مع حزب "جيشر" بقيادة أورلي أبوكسيس ليفي، التي تتوقع الاستطلاعات حصولها على ما بين 4 و6 مقاعد. وقد يكون هذا الحزب القوة القادرة على كسر تفوق معسكر ائتلاف نتنياهو وترجيح كفة معسكر غانتس، الذي سيكون عليه أولاً أن يحقق المطلوب من عدد المقاعد والوصول إلى الرقم 30 لجهة عدد مقاعده في الكنيست، حتى يستطيع بناء ائتلاف حكومي يتمتع بأغلبية 61 عضواً على الأقل من أصل 120. هذا الأمر يُلزم غانتس بالوصول إلى شرائح واسعة في معسكر اليمين وفي أوساط الشرقيين، ولكن أيضاً أوساط شريحة البورجوازية المتوسطة، غربية الأصول.

أخيراً سيكون عليه الاعتماد على أحزاب يمينية للتعويض عن مقاعد كتلتي حزب "ميرتس" اليساري الصهيوني، ومقاعد "القائمة المشتركة" للأحزاب العربية (يُتوقع أن تصل معاً إلى 17 مقعداً ستكون خارج الائتلاف الحكومي) وعدم أخذها بالحسبان، لأن أي تعاون محتمل معهما يعني فقدانه شرعيته في المجتمع الإسرائيلي. وتكفي هنا الإشارة إلى أن مصدر شرعية إيهود باراك عندما تغلّب على نتنياهو في انتخابات عام 1999، كان تمكّنه في حينه من تحقيق تفوق في الاستطلاعات على نتنياهو داخل المجتمع اليهودي نفسه أولاً.