مخطط ممنهج
تكشف مصادر حكومية واجتماعية وحقوقية في عدن، لـ"العربي الجديد"، أن المدينة تتعرض للإفراغ من كوادرها بشكل ممنهج وبأشكال عدة، منها الاغتيالات والاستهدافات والمضايقات، فضلاً عن إبعاد كوادر من مختلف المؤسسات الحكومية، واستبدالهم بأشخاص جدد غير مؤهلين قدموا من محافظات أخرى بعد التحرير، لا سيما بعد اغتيال محافظ عدن الأسبق جعفر محمد سعد، والذي كان ينظر إليه أبناء عدن كمنقذ لهم وللمدينة.
ووفق المصادر، تتم عملية تفريغ عدن من كوادرها وقادة تحريرها عبر طريقتين: الأولى بواسطة العنف والاغتيالات، والتي تهدف لتصفية ضباط أمن وقادة عسكريين كان يمكن أن يمثّلوا نواة لمؤسسات تضبط الأمن في عدن نتيجة خبرتهم الطويلة ومعرفتهم الجغرافية بالمنطقة، إضافة إلى استهداف بعض قادة "المقاومة" البارزين، الذين كان لهم دور كبير في التحرير وإنشاء المعسكرات وتدريب الشباب وتنظيمهم، لمواجهة مليشيات الحوثيين وحلفائهم. فيما تجري اليوم عملية ممنهجة ومستمرة، تطاول أئمة المساجد الذين أدوا دوراً رئيسياً في تحشيد الناس لمواجهة الانقلابيين عبر استخدام مكبرات الصوت في المساجد، ودعوة الناس لدعم المقاومين ومساندتهم، وكانوا بمثابة حلقة وصل بين الأهالي و"المقاومة".
أما الطريقة الثانية لاستهداف كوادر المدينة، فهي عبر تسريحهم من المؤسسات الحكومية في عدن، وإجبارهم على المكوث في منازلهم، أو دفعهم إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل. ومن هؤلاء مهندسون وقيادات مدنية واجتماعية وأساتذة جامعات. أحمد عبدالله هو أحد المهندسين الذين كانوا قد خرجوا في تظاهرات في عدن، يتواجد في القاهرة. يقول لـ"العربي الجديد" إنه ترك عدن وعائلته لمحاولة الحصول على عمل في دولة أوروبية أو أفريقية، بعد تعيين شخص آخر في وظيفته، "على الرغم من أن تخصصه مختلف وغير مناسب للوظيفة، لكنه جاء بواسطة من الحكام الجدد". مثل عبدالله هناك المئات، بل الآلاف، ممن غادروا عدن إلى دول أخرى للحصول على وظيفة. أحد هؤلاء يحمل شهادة دكتوراة وهو خبير في الهندسة الكيميائية، لكنه اليوم يعمل في مطعم يمني في دولة عربية، ويقول لـ"العربي الجديد": "لم أكن أتوقع أن تترك أي أسرة عدنية المدينة، لكن شاءت الأقدار أن أكون واحداً من الذين تركوها".
تسلسل درامي
دفعت الحرب في عدن بعض الكوادر إلى تصدّر الصفوف وقيادة "المقاومة" ضد الحوثيين وحلفائهم، وكان من بين هذه الكوادر رجال دين ومدنيون وضباط وعسكريون وصولاً إلى الصيادين وغيرهم، فيما اكتفت بعض الكوادر بالصمود في عدن وأخرى غادرت إلى بعض دول الجوار. وما ان تحررت عدن ومحيطها حتى عادت بعض الشخصيات، لكن بقاء الكثيرين منهم في المدينة لم يطل، فقد بدأت الخارطة السياسية تتغير وظهرت مشاريع خارجية للمنطقة، وأبرزها من الإمارات.
وتعرضت الكثير من الكوادر والقيادات للاستهداف بعد أن دفع العديد من قادة "المقاومة" أنصارهم للالتحاق بصفوف الجيش الوطني، بل ضغطوا على الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي وحكومته لدمج أفراد "المقاومة" ضمن الجيش واعتبارهم نواة لجيش وطني جديد، لا سيما أن أغلبهم من الشباب. فيما تراجعت هذه القيادات إلى الوراء، في الوقت الذي كانت فيه جماعات مدعومة من التحالف ترفض الانخراط ضمن صفوف الجيش الوطني تحت مظلة الشرعية، وتُشكّل كيانات أمنية خارج إطار الشرعية بدعم إماراتي.
تلك القيادات تراجعت للخلف أملاً منها بأن تبسط الدولة سيطرتها، منتظرة الحكومة للنظر في ترتيب أوضاعها، لكن تباطؤ الشرعية في حل أوضاع هذه القيادات، جعل الأخيرة عرضة للاستهداف والاغتيال، إضافة إلى تضييق الخناق عليها من أطراف عدة، خصوصاً أن الكثير من هذه القيادات فضّلت البقاء تحت سلطة الشرعية، ورفضت الانخراط في أي مشاريع خارجية أو خارج الإجماع الوطني، لا سيما في المرحلة الحالية، وفق ما يقول أحد أبرز قيادات "المقاومة" في عدن. القيادي الذي فضّل عدم كشف اسمه ويتواجد خارج اليمن حالياً، يلفت في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن الاستهدافات والاغتيالات التي طاولت زملاءه من قادة تحرير عدن وكوادرها، دفعته إلى مغادرة عدن واليمن مع بعض القادة إلى دول عربية وإسلامية خوفاً على حياتهم بعد أن رفضوا الانخراط في مشاريع خارجية، ما جعلهم فريسة سهلة للاستهداف ضمن التصفيات بين المتصارعين في عدن. ويضيف أنه لا يستطيع العودة إلى عدن مع أسرته لا سيما أن ظروفه صعبة، على الرغم من تواصله مع قيادات في الحكومة الشرعية لحل مشاكلهم.
تسريح الكوادر المدنية ارتفع منسوبه منذ تولي عيدروس الزبيدي محافظة عدن، فقام بتعيين طاقم من المقربين في مرافق عدة، كما أن مسؤولين في الشرعية قاموا بتعيين وجوه جديد، موالية لهم في المؤسسات الحكومية، في إطار التسابق على بسط النفوذ. وكان للمناطقية دور بارز في التعيينات، على حساب إقصاء كوادر عدنية في مختلف المجالات كانت قد أدارت عدن والدولة ومؤسساتها لسنوات طويلة.
الإمارات حاضرة بقوة
قامت الإمارات بدور كبير في تغيير وجه عدن وكوادرها، من خلال تشكيل قوات وجماعات دعمتها وموّلتها، وفي مقدمتها قوات "الحزام الأمني"، ذراعها في عدن ومحيطها، والذي اعتقل وعذب المعارضين للإمارات ومشروعها، فضلاً عن تضييق الخناق على الكثير من القيادات لدفعها إلى مغادرة اليمن تحت التخويف، لتخلق هذه الجماعات واقعاً منعت عبره قيادات في "المقاومة" من العودة إلى عدن، فضلاً عن مسؤولين في الشرعية بمن فيهم وزراء أبرزهم قائد "مقاومة" تحرير عدن، وأول محافظ بعد التحرير، وزير الشباب والرياضة الحالي نايف البكري.
وتقول مصادر متعددة، بما فيها حكومية رسمية، إن الإمارات تقف خلف منع عودة البكري إلى عدن لممارسة مهامه منها. ويعرب مصدر حكومي في وزارة الشباب، لـ"العربي الجديد"، عن أسفه "ألا يستطيع الوزير العودة إلى عدن، وأن من صمد وقاد "المقاومة" ميدانياً بل ساعد التحالف في التحرير، يُمنع من العودة إلى مدينته، بينما يُسمح لآخرين كانوا في صفوف الانقلاب وشاركوا في حرب عدن وحصارها في العيش والتحرك في المدينة بحرية وبحماية السعودية والإمارات، في ازدواجية غريبة يتعامل فيها التحالف مع الحلفاء الحقيقيين"، مضيفاً: "على الرغم من مخاطبة السعودية حول هذه التجاوزات إلا أنها لم تُبدِ تجاوباً لحل هذه الإجراءات الإماراتية".
ويؤكد مقربون من البكري أنه مستاء من ذلك الاستهداف، لكنه لا يريد أن يصعّد الأوضاع ويخلق أزمة جديدة، مع أن محاولات الإمارات ضده بدأت منذ وقت مبكر حين كان قائداً لـ"المقاومة"، مروراً بالضغوط لإقالته من منصبه كمحافظ لعدن، بينما هو لم يبدِ أي ردة فعل تجنّباً لمزيد من الانقسامات.
ويبدو واضحاً أن إفراغ عدن من كوادرها والكثير من قادتها يخدم مشروع الإمارات وحلفائها في "المجلس الانتقالي الجنوبي" وقوات "الحزام الأمني" للسيطرة على عدن والتحكّم بكافة مفاصلها، بما فيها المنافذ البحرية والجوية والبرية، بينما يُضعف من وجود الشرعية، التي يرى مسؤولوها أن هؤلاء الكوادر كان يمكن أن يمثّلوا نقاط قوة للحكومة لو تم استيعابهم، لكنهم يعترفون بأخطاء ارتكبتها الحكومة في حق هؤلاء، بمن فيهم قيادة "مقاومة عدن" الذين غادروا اليمن.
ويقول إمام أحد المساجد في عدن، مفضّلاً عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك أشخاصاً يدّعون أنهم من الحزام الأمني"، يضغطون عليه لترك المسجد وتسليمه لشخص آخر موالٍ لهم، لكنه يؤكد أنه على الرغم من الضغوط إلا أنه يستمر في الرفض، لكنه بات يتخوّف على حياته بعد التصفيات التي طاولت أئمة مساجد آخرين.
عشرات المستهدفين
وفق الإحصائيات التي حصلت عليها "العربي الجديد"، فإن عدد الضباط والمسؤولين الأمنيين الذين تم استهدافهم، تجاوز الأربعين، في مقدمتهم محافظ عدن الأسبق اللواء جعفر محمد سعد، ورجل المباحث فهد الحكيمي، ومدير الاستخبارات في مطار عدن العقيد ناصر مقريح. ومن بين القيادات البارزة التي نجت من التصفيات، قائد اللواء أول حماية رئاسية، اللواء الركن سند الرهوة، الذي تعرّض لمحاولة اغتيال بتفجير عبوة ناسفة على خط البريقة الشعب، غرب عدن، وهو من أبرز القيادات الموالية لهادي.
وإلى جانب ذلك، فإن عدد قادة "المقاومة" ورجال الدين الذين تم استهدافهم وفق إحصائيات متعددة وصل إلى 28 شخصاً، من بينهم عبدالعزيز سمحان الراوي، أحد مؤسسي "المقاومة" في عدن، وينتمي للتيار السلفي، فضلاً عن الشيخ عارف الصبيحي، وهو إمام مسجد وقائد في "المقاومة".
وتحوّل استهداف أئمة المساجد إلى قضية رأي عام في عدن، وكان في مقدمة هؤلاء الشيخ السلفي عبدالرحمن بن مرعي العدني، والذي كان يدير مركز "الفيوش" السلفي قبل اغتياله. وعلى الرغم من تمكّن حراس المركز من القبض على الجناة، لكن الإماراتيين حينها استلموهم ولم يُعرف مصيرهم أو نتائج التحقيق معهم حتى اللحظة، مع مضي أكثر من عامين على القبض عليهم. وإلى جانب بن مرعي، جرى استهداف مجموعة من أئمة المساجد المنتمين لتيارات عدة، كجلال المارمي وعادل الشهري وياسين الحوشبي وفهد اليونسي وشوقي كمادي وغيرهم.
غياب الحكومة
في ظل الصراع القائم على الأرض، غالباً ما يكون رد الحكومة الشرعية تجاه الاغتيالات والاستهدافات بإصدار بيانات تنديد وتضامن ووعود بالتحقيق، وهو ما يعيده البعض إلى عدم قدرة السلطات الشرعية على حماية هذه الكوادر بسبب النزاع السياسي على الأرض في عدن. وأصدرت القوى السياسية، خصوصاً المؤيدة للشرعية، أكثر من بيان دانت فيها هذه الاستهدافات، وطالبت السلطات الشرعية بالتحقيق فيها ومحاسبة المتورطين وفرض الأمن، في موازاة مطالبة أنصار بعض القوى السياسية المؤيدة للشرعية والتي هي على خلاف مع للإمارات وحلفائها بإقالة مدير أمن عدن اللواء شلال علي شايع، المحسوب على أبوظبي، لفشله في الكشف عمن يقف وراء الاغتيالات وعدم قدرته على ضبط الأمن في العاصمة المؤقتة. حزب "الإصلاح" أصدر بياناً وجّهه للرأي العام والحكومة الشرعية والتحالف، قال فيه إن عدداً من الكوادر التي تم استهدافها تنتمي إليه، واتهم قوى أمنية تتبع الإمارات بينها "الحزام الأمني" بالقيام بعدد من العمليات التي طالت كوادره ومقراته، وهو أول اتهام رسمي من قوى سياسية في هذا الإطار.
أما "المجلس الانتقالي الجنوبي" المدعوم من الإمارات، فلم يُصدر أي بيان يحدد موقفه من هذه التصفيات، على الرغم من أن خصومه يتهمون بعض قياداته بالوقوف وراء هذه الأحداث لتصفية بعض الشخصيات لا سيما أئمة المساجد، في إشارة إلى نائب رئيس المجلس هاني بن بريك، أحد رجال الإمارات الأمنيين الأقوياء. كما أن أطراف ومكوّنات ما كان يعرف بـ"الحراك الجنوبي" لم يصدر عنها أي رد أو بيان، وهي مكوّنات تتبع قيادات سياسية، مثل الرئيسين السابقين علي ناصر محمد وعلي سالم البيض، إضافة إلى القيادي حسن أحمد باعوم. هذه الضبابية السياسية من القوى السياسية الجنوبية، حيال هذه القضية، تزيد الوضع في جنوب اليمن تعقيداً، وتضع علامات استفهام كثيرة لدى الشارع، لا سيما العدني الذي يعيش كابوس هذه التصفيات.