لا يمكن فصل القمة الثلاثية في عمان بمشاركة كل من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ووزير الخارجية الأميركي جون كيري ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، مع مشاركة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هاتفياً (وفق تقارير موقع معاريف ومواقع أخرى) عن الجهد الإسرائيلي الحالي لحكومة نتنياهو لمنع تفاقم الانتفاضة الفلسطينية في القدس المحتلة، والخوف من امتدادها إلى الضفة الغربية. كما لا يمكن فصلها عن الرؤية التي يتبناها نتنياهو منذ العدوان الأخير على قطاع غزة، والقاضية بمحاولة الوصول إلى تسوية أو على الأقل تهدئة طويلة الأمد، تعتمد على مدّ جسور العلاقات مع "الدول السنية المعتدلة".
والواقع أن ما حدث في عمان، مساء الخميس، من إبراز لدور عمّان وللعاهل الأردني عبر اللقاء المشترك، مع إبقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خارج اللقاء مع نتنياهو، والاكتفاء أيضاً باقتطاع تعهدات من عباس لكيري بشأن التهدئة، يكشف عن اتجاه نتنياهو إلى الرهان على الدور المصري في منطقته الجغرافية (يُعتبر قطاع غزة ساحة خلفية للنظام المصري الذي يُشهر عداءه للمقاومة الفلسطينية في القطاع ولحركة "حماس" مقابل تعزيز التحالف الاستراتيجي مع تل أبيب) من جهة. كما يكشف عن مساعي نتنياهو لتعزيز الدور الأردني من بوابة الحفاظ على المكانة الخاصة للملكة الأردنية في "الأماكن المقدسة" في القدس المحتلة وفق اتفاق وادي عربة من جهة ثانية. من دون أن يقفز ذلك على اعتبار الضفة الغربية نوعاً من الساحة الخلفية للأردن، التي يمكن لارتفاع ألسنة نيرانها أن تصل عمان.
وفي السياق، يشكّل لقاء عمان، عملياً، حلقة أخرى في مسلسل إضعاف عباس ونفي أي علاقة للسلطة الفلسطينية أو دور لها في القدس المحتلة يُعترف به إسرائيلياً مستقبلاً، عبر تحديد النظام الأردني عنواناً لتطمينات إسرائيلية بشأن عدم كسر الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف. ويأتي ذلك بالتزامن مع إطلاق بلدية الاحتلال محاولات لإجراء حوار "مباشر" مع السكان المقدسيين حول قضاياهم المعيشية والحياتية بعيداً عن تأثيرات "التحريض الفلسطيني لسلطة عباس"، حسب الاتهامات الإسرائيلية.
ويتناغم ذلك مع موقف حكومة نتنياهو التي تقبل بالاعتراف بدور أو مكانة خاصة في الأماكن المقدسة من دون أن يتعدى ذلك إلى اعتراف بمكانة أو دور سياسي لأي طرف عربي كان في القدس المحتلة.
ويهدف نتنياهو من وراء هذا التحرك أيضاً إلى تخفيف حدة التوتر مع الولايات المتحدة وتجنب غضب أميركي إضافي عليه، ولا سيما بعد التهديدات الأردنية؛ وأهمها سحب السفير الأردني من تل أبيب مؤقتاً. ويخشى نتنياهو من اتهامه بأن نشاط وزرائه وأعضاء في الكنيست بمن فيهم من الليكود والذي يستفز المسلمين والفلسطينيين في القدس قد يؤدي إلى حرب دينية من جهة. وهو ما من شأنه، وهذا هو الأهم حالياً، أن يمسّ ويضرّ بكل احتمالات ومساعي الحرب على "داعش" ووقف زحفه باتجاه الأردن مستقبلاً.
ومن هذا المنطلق، تشكّل عمان مخرجاً لنتنياهو من ورطته، فهو لا يستطيع أن يتراجع لاعتبارات السياسة الداخلية عن اتهاماته لعباس والسلطة الفلسطينية في إلهاب المشاعر في القدس المحتلة. وبالتالي لن يكون بمقدوره تفسير أي تهدئة إسرائيلية أو "بوادر حسن نية" تجاه الرئيس الفلسطيني. لكن ذلك سيعتبر خطوة إيجابية لو كانت هذه التنازلات مقدمة من أجل الحفاظ على العلاقات مع الأردن، ومع محور "الدول السنية المعتدلة"، ولا سيما بعدما كان نتنياهو وعد خلال العدوان على غزة بأفق سياسي جديد مع هذه الدول.
وتمكِّن التنازلات الإسرائيلية للأردن من ممارسة ضغوط غير مباشرة على السلطة الفلسطينية التي بات رئيسها اليوم أكثر تعلقاً بالأردن من أي وقت مضى، ولا سيما أنّ عمان تقود اقتراحاً ومبادرة لاستصدار قرار أممي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما يعني عدم قدرة سلطة رام الله على إغضاب الأردن حالياً، أو حتى التحفظ على ما كرّسه اتفاق وادي عربة بشأن المكانة الخاصة للأردن في القدس.
ومن المرجّح أن تشهد الفترة المقبلة، في ظل تداعيات التطورات الحزبية الداخلية في إسرائيل لجهة تقديم موعد الانتخابات العامة، غزلاً إسرائيلياً - أردنياً مصحوباً بمديح أميركي لـ "الدور الإسرائيلي المسؤول وممارسة ضبط النفس"، مقابل وعود بتحريك في العملية السلمية أو على الأقل الحديث عن مساعي لاستئناف المحادثات أو الاتصالات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بالاعتماد على حجم نجاح أجهزة السلطة في وأد الانتفاضة المقدسية ومنع امتدادها إلى الضفة الغربية.
وأخيراً، فإن قمة عمان تحقق لإسرائيل ولحكومة نتنياهو تحديداً مكسباً إضافياً، إذ تركّز الأضواء على القدس والضفة الغربية عبر النافذة الأردنية، لكنها في الوقت نفسه، ومن خلال المشاركة المصرية في القمة (هاتفياً)، ترسّخ الهروب من مستحقات وقف إطلاق النار المؤقت في غزة. وتدفن أيضاً كل ما دار من حديث عن مسار إعادة سلطة عباس إلى القطاع. وهي العودة التي روّج لها نتنياهو خلال العدوان كشرط لوقفه من جهة، ولإعادة إعمار قطاع غزة بشروط إسرائيلية بامتياز من جهة ثانية. وهي الشروط التي تلقفها النظام المصري كوسيلة وغطاء لضرب حركة "حماس" وتحييدها كلياً بل ومواصلة الحصار المفروض عليها وعلى القطاع.