وتمثل فضيحة جيش الاحتلال، التي كشفتها أمس المراسلة العسكرية للإذاعة العامة (كان) كرميلا مينشه، مؤشراً على تواطؤ بين اليمين وبين الحريديم في تقديم صورة كاذبة للمجتمع الإسرائيلي، عن بوادر اقتراب الحريديم من خطوط الإجماع الإسرائيلي العام، أو للدقة القبول بقالب الصهر الصهيوني الذي تمثله الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، كمقدمة إلى استعدادهم للاندماج في حياة المجتمع الإسرائيلي ككل، بما في ذلك الالتحاق بالتعليم الجامعي والانخراط في سوق العمل بعد أن تجاوزوا عقبة الخدمة العسكرية، التي شكلت على مدار عقود بؤرة توتر بين الحريديم عموماً والمجتمع اليهودي الإسرائيلي ككل، بدل انتظار الخلاص الإلهي، ممثلاً بقدوم المسيح اليهودي آخر الزمان لإقامة دولة التوراة.
وقد سبق هذه الفضيحة تضخيم خبر في الصحف الإسرائيلية، في اليومين الماضيين، عن تراجع نسبة التجنيد للدورة الأخيرة، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عند اليهود الحريديم بنسبة 20 في المائة مقارنة بالعام الماضي. ومع أن الجيش الإسرائيلي، وحكومة اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو، سعوا في الأعوام الأخيرة إلى الاختباء وراء تشكيل وحدتين عسكريتين لخدمة الحريديم في الجيش، هما "نيتسح يهودا" و"كفير"، اللتان ذاع صيت الجنود العاملين فيهما في الضفة الغربية المحتلة، ببشاعة التنكيل بالفلسطينيين، إلا أن ما نشرته الإذاعة الإسرائيلية يؤكد عملياً التواطؤ بين اليمين المتطرف العلماني، الذي يمثله الليكود ونتنياهو، وبين أحزاب الحريديم، لخدمة الأجندة السياسية لهما، وصدّ ادعاءات الوسط واليسار في إسرائيل، وحتى أحزاب يمين علمانية (مثل حزب يسرائيل بيتينو بقيادة أفيغدور ليبرمان)، التي تدعو لفرض التجنيد العام على الحريديم، عبر الترويج لسياسة التجنيد التدريجي للحريديم، والاستفادة مقابل ذلك من دعم الحريديم لحكم اليمين.
وبحسب معطيات نشرتها صحيفة "هآرتس"، أول من أمس، نقلا عن دائرة الإحصاء المركزية، فإن التوقعات للتغيرات الديمغرافية في إسرائيل للعام 2065 تفيد بأن نسبة اليهود الحريديم ستصل إلى 32 في المائة من مجمل السكان في إسرائيل، فيما ستقف نسبة العرب الفلسطينيين في الداخل عند 19 في المائة، لتشكل المجموعتان أغلبية 51 في المائة من مجمل السكان، وتراجع نسبة الإسرائيليين اليهود بشتى التيارات الصهيونية، بما فيها التيار الديني الصهيوني والتيارات العلمانية المختلفة، إلى 49 في المائة.
ورأى تقرير مفصل لصحيفة "هآرتس"، نشر أول من أمس، أن إسرائيل في ظل هذه المعطيات فشلت فشلاً ذريعاً في مساعيها لتطوير أوضاع الحريديم، ودفعهم نحو الاندماج في المجتمع والاقتصاد والجيش، وفي محاولات رفع نسبة الملتحقين بالتعليم الجامعي والأكاديمي. وبحسب التقرير فإن الفشل يتركز بالذات في دمج الذكور من الحريديم في أسواق العمل، مقابل نجاح نسبي في دمج النساء من هذا القطاع في سوق العمل، وبشكل خاص منذ العام 2015. لكن التقرير يبرز العام 2015 تحديداً لدوافع سياسية على ما يبدو باعتباره هذا العام شكّل نقطة تحول عند نتنياهو بقراره العودة إلى ما بات يعرف بالحلفاء الطبيعيين، بعد أن كان حاول خلال حكومته الثالثة، بين عامي 2013 و2015، الاستغناء عنهم من خلال التحالف مع حزبي البيت اليهودي بقيادة نفتالي بينت وييش عتيد بقيادة يئير لبيد. وكانت تلك الحكومة الأصعب أثراً على الحريديم، بعد أن وجدوا أنفسهم خارج الحكومة، والأهم من ذلك هدفاً سهلاً لتحريض منهجي ضدهم وضد نمط حياتهم التقليدي، بما في ذلك تشبثهم بعدم الخدمة في الجيش من جهة، ورفضهم محاولات فرض نظام ومنهاج تعليمي إسرائيلي عام يتجاوز منهاجهم المتبع، والذي يقوم أساساً على تدريس التوراة والحساب واللغات، دون أن يشمل تعليم العلوم ولا سيما الأحياء والكيمياء.
ومع أن التقرير في "هآرتس" أشار إلى النمو في أعداد الحريديم، إلا أنه اعتمد التراجع في نسبة المتجندين للجيش مقياساً ودليلاً على تراجع سياسات وتوجهات اندماجهم ودمجهم في المجتمع الإسرائيلي. ويشير التقرير إلى أن التراجع سجل أيضاً في مساعي دمج الحريديم في الأكاديميا الإسرائيلية، الذي أريد له أن يكون خطوة أخرى نحو اندماجهم في حياة المجتمع الإسرائيلي العام، بعد عقد من الزمان، وصفه التقرير بأنه عقد النشوة من ارتفاع نسبة الملتحقين بالجامعات من المجتمع الحريدي، الذي وصل إلى أوجه في العام 2010 بارتفاع أعداد المنتسبين للجامعات الإسرائيلية من الحريديم من 6000 طالب إلى نحو 11500 في 2015. لكن هذا الازدياد انقطع، وراوح عدد الطلاب الحريديم المنتسبين للجامعات الإسرائيلية مكانه، على الرغم من إقرار لجنة الميزانيات والتخطيط لمجلس التعليم العالي الإسرائيلي خطة خماسية ثانية هدفت إلى رفع أعداد الطلاب الحريديم حتى العام 2022 إلى 19 ألف طالب.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الأمر إذ تبين أن الزيادة التي تم الترويج لها، هي أكثر في صفوف الإناث منها في صفوف الذكور، في الوقت الذي تكمن فيه مشكلة اندماج الحريديم في الاقتصاد الإسرائيلي، في قطاع الذكور لا الإناث. وإذا لم يكن ذلك كافياً فقد تبين أن نسبة تسرب من التحقَ منهم بالجامعات وصلت إلى حد 46 في المائة عند الذكور مقابل 28 في المائة عند الإناث، ما يعني أن نسبة الخريجين منهم أقل من ذلك بكثير. ورأى التقرير أن هذه المعطيات تشير في الواقع إلى عودة المجتمع الحريدي إلى نزعة الانعزال والتقوقع في بيئته التقليدية. وهو يرى أن أسوأ مقاييس الفشل هي التي تتجلى في عدم اندماجهم في سوق العمل، مع أن ذلك بدرجة أقل فيما يختص بالإناث، وإن كنّ يعملن بشكل عام في وظائف متدنية وبرواتب متدنية أيضاً. وأشار التقرير إلى أنه حتى العام 2015 كان هناك توجه ثابت في ارتفاع خروج الذكور من مجتمع الحريديم لسوق العمل، لكنه توقف كلياً في 2015، ثم سار بالاتجاه المعاكس كلياً، لتصل نسبة الرجال العاملين بين الحريديم إلى 48 في المائة مقابل 52 في المائة في 2015.
وبحسب التقرير فإنه في الوقت الذي بدأت فيه الجهود لدمج الحريديم تعطي ثمارها، قام نتنياهو بإسقاط حكومته الثالثة، في العام 2015 (وهي الحكومة الوحيدة التي شكلها اليمين منذ العام 1977 من دون أي من أحزاب الحريديم)، وبالتالي ضرب كل جهود دمجهم في المجتمع والاقتصاد وأعاد العجلة إلى الوراء. في المقابل استغلت أحزاب الحريديم نقطة التحول المذكورة، وعودتهم لحكومة نتنياهو الرابعة في 2015 تحت شعار الحلفاء الطبيعيين للانقضاض على كل برامج ومخططات دمجهم في مختلف جوانب حياة المجتمع الإسرائيلي، والعودة إلى تقوقعهم في بيئتهم التقليدية ونمط حياتهم السابق، مستغلين قوتهم السياسية وحقيقة عدم قدرة اليمين على البقاء في الحكم من دونهم.
واليوم يشكل موضوع دمج الحريديم في المجتمع، وفرض التجنيد الإلزامي عليهم، سواء بشكل جارف أو وسطي والتوصل إلى "كوتا" محددة، أحد أبرز العوامل المعلنة لحزب أفيغدور ليبرمان في رفضه الانضمام لحكومة يمين ضيقة تستند إلى أحزاب الحريديم. كما يشكل موضوع اندماجهم في الاقتصاد الإسرائيلي، والأصح عدم اندماجهم، مصدر قلق كبير في وزارة المالية ودوائر التخطيط، بشأن إمكان وقدرة دولة الاحتلال على مواجهة التحديات الاقتصادية في المستقبل، في حال ظلت نسبة انخراطهم في أسواق العمل وفي مبنى الاقتصاد الإسرائيلي ككل متدنية كما تشير إليه الإحصائيات الحالية.