حسم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أمره، وأعلن حالة الطوارئ، كمدخل لتمويل جداره الحدودي مع المكسيك. توسّل هذا الإجراء للالتفاف على الكونغرس الذي امتنع عن التجاوب مع طلب الرئيس في هذا الخصوص. ظروفه السياسية الضاغطة وحسابات النخب والقواعد المحافظة الحريص على إرضائها، دفعته إلى هذا الخيار الذي وضع واشنطن، وحتى رئاسته، في "حالة طوارئ"؛ فلا الأوضاع على أرض الحدود، ولا الحيثيات التي عرضها، تبرر هذه الخطوة، حسب شبه الإجماع في واشنطن، بما في ذلك الكونغرس وفريقه الجمهوري فيه، الأمر الذي تسبّب بنشوء أزمة دستورية – سياسية تزيد من تعقيدات المشهد المعقّد أصلاً.
عادة هذه الخطوة متروكة للحالات "غير الاعتيادية" أو التنفيذية المستعجلة، حسب القانون الذي أقرّها في 1975. منذ ذلك الحين جرى استخدامها 58 مرة، دشنها الرئيس جيمي كارتر عام 1979 لحجز أرصدة وممتلكات إيرانية ردّاً على احتجاز دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران. وبعده لجأ إليها كل رئيس تقريباً لأغراض تتعلّق بحجز مماثل ضد دول أو أفراد، مثل وقف التصدير إلى دول معينة، كجنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد، أو صربيا أثناء حرب البلقان أو قضايا المخدرات وانتشار أسلحة الدمار، وغير ذلك من الخطوات التي تنضوي في غالبيتها في خانة العقوبات. ومرة لجأ إليها الرئيس باراك أوباما عام 2009 لمحاصرة وباء إنفلونزا الخنازير الذي انتشر بصورة خطيرة آنذاك. وقد جرى شطب 24 حالة لم يعد معمولاً بها. الرئيس ترامب اعتمدها في سبتمبر/ أيلول 2018 لفرض عقوبات على الجهات التي قد تتدخّل في الانتخابات الأميركية.
لكن الحالة الراهنة مختلفة من كافة النواحي؛ وقائعها مبالغ فيها، وحيثياتها القانونية رخوة، وخاصة الدستورية منها، ودوافعها الأساسية سياسية؛ ما قدّمه الرئيس من أرقام وخروقات وأعمال عنف تحملها معها الهجرة غير المشروعة، لا يتفق مع بيانات الجهات الرسمية، مثل وزارة الأمن الداخلي، وحرس الحدود، وشرطة المعابر، وغيرها من المراكز المعنية المنتشرة على طول الحدود التي تمتد حوالى ألفي ميل. فالرئيس يدّعي أن الحدود تتعرض إلى عملية "غزو" تقوم به "قوافل" من الزاحفين على أميركا، يتغلغل بينهم "مهربو المخدرات والمجرمون وتجار البشر"، في حين تكشف الإحصاءات أن التسلل هبط بنسبة 20% في السنوات الأخيرة، من دون التقليل من خطورة الفلتان الحدودي وعواقبه.
والخلاف ليس حول ضرورة تحصين سلامة الحدود؛ الخلاف يدور حول كيفية تحقيق ذلك. ترامب أصر في البداية على جدار من الأسمنت المسلح بطول الحدود وبكلفة نحو 25 مليار دولار، وتلك وسيلة لم تلق القبول حتى في صفوف الجمهوريين الذين تجاهلوا الأمر طيلة أول سنتين من رئاسته عندما كانت الأكثرية بيدهم في مجلسي الكونغرس. لكن الرئيس تمسك به، لأنه خيار يرضي عتاة المحافظين المصرّين على تحقيقه، أو المباشرة به عشية حملة انتخابات الرئاسة المقبلة.
ليس هذا وحسب؛ فإعلانه لا يقف على أرض قانونية صلبة. صحيح أن قانون 1975 يجيزه للرئيس، لكنه "يوجب عليه عرض تفاصيل" الإجراء "في ضوء القوانين المرعية". غير أن العرض الذي طرحه محل جدل. والأهم أن لجوءه إلى هذا الخيار يصطدم مع الدستور، لأنه ليس سوى حيلة للالتفاف على الكونغرس، فهذا الأخير هو مسؤول الخزينة وفقاً لنص صريح في الدستور.
الرئيس طلب أكثر من 5 مليارات دولار كدفعة أولية لتمويل الجدار. رفض الكونغرس. رد الرئيس بالإغلاق الحكومي الذي اضطر بعد 35 يوماً إلى التراجع عنه. في المفاوضات الأخيرة، وافق الكونغرس على 1,375 مليار دولار فقط. لكن أقصى اليمين رفض ذلك، وحرّض الرئيس على اللجوء إلى حالة الطوارئ التي تخوله اقتطاع مبالغ من مخصصات سبق أن وافق عليها الكونغرس وتحويلها إلى صندوق الجدار. مناورة مكشوفة تحت ستار قانوني، يتوقع العديد من أهل القانون أن تنسفه المحاكم وتبطل مفعول الفذلكة التي لجأ إليها الرئيس. الموضوع سيطرح على القضاء للطعن فيه كما سبق أن جرى لقرار الرئيس التنفيذي بحظر سفر مواطنين من دول إسلامية إلى أميركا. كذلك من المؤكد أن يسارع الكونغرس، بمبادرة من مجلس النواب، إلى التصدي لهذا الإجراء، سياسياً على الأقل، وكشف تجاوزاته.
في أية حال، وكيفما رست عليه حالة إعلان الطوارئ من الناحية القانونية، فإن هذا الموضوع هو في عمقه أحد تعبيرات الصراع المحتدم بين شريحتين حول "لون أميركا": أبيض أو أسمر. وفي التقديرات أن أميركا في 2045 سيصبح الأبيض فيها أقلية. موعد تخشاه القاعدة المحافظة التي تدفع باتجاه سدّ الحدود بالجدران، والتي تجاوب معها الرئيس حسب معظم القراءات بافتعال أزمة "الغزو" لإعلان خطوة الطوارئ المرشحة لمزيد من التأزيم الذي بدوره قد يؤدي إلى افتعال أزمة خارجية لخلط الأوراق.