تدخل مالي منعطفاً جديداً مع توقيع "تنسيقية أزواد" على اتفاق السلم والمصالحة، لكن مخاوف كثيرة ما زالت موجودة من إمكان عدم تطبيق هذا الاتفاق واستمرار الوضع على ما هو عليه. فبعد مرور شهر كامل على إعلان اتفاق السلم والمصالحة في باماكو من الحكومة المالية، وقّعت "تنسيقية أزواد"، التي تضم حركات المتمردين الطوارق والعرب في شمال مالي، على الاتفاق، في مراسم حضرها الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، وممثل الأمم المتحدة منجي حمدي، ووزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، الذي ترعى بلاده مفاوضات السلام في مالي، بالإضافة إلى ممثلي البعثات الدبلوماسية الدولية في العاصمة المالية.
وكانت مقاطعة "التنسيقية" لهذا الاتفاق في 15 مايو/ أيار الماضي في باماكو، أضعفته كثيراً وأفرغته من محتواه، لكن المفاوضات استمرت مع "تنسيقية أزواد" خصوصاً من الجزائر وفرنسا، بالتزامن مع ضغوط إقليمية ودولية على الحكومة المالية للاستجابة لمطالب وتحفظات "التنسيقية" من أجل إنجاح الاتفاق. وقامت الحكومة بإقناع مليشيات "غاتيا" المقرّبة من القوات الحكومية بالانسحاب من مدينة ميناكا التي سيطرت عليها بعد معارك عنيفة مع المتمردين الطوارق في 28 أبريل/ نيسان الماضي وسلّمتها إلى قوات الأمم المتحدة. كما قامت بإلغاء مذكرات اعتقال في حق 15 قيادياً في "تنسيقية أزواد". وأسفرت هذه الجهود مجتمعة عن قبول "التنسيقية" أخيراً بالتوقيع على الاتفاق.
مصلحة فرنسية
ومباشرة بعد الإعلان عن توقيع "التنسيقية" على الاتفاق، تتالت بيانات الترحيب والإشادة الدولية بهذا الاتفاق التاريخي الذي من شأنه أن ينهي أعمال العنف في شمال البلاد التي تصاعدت منذ العام 2013 بين المتمردين الطوارق والعرب من جهة، والقوات الحكومية والمليشيات المقرّبة منها من جهة أخرى. وحيّت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديركا موغيريني الاتفاق، كما ثمّن وزير الخارجية الجزائري هذا الاتفاق واعتبره "منعطفاً حاسماً في تاريخ مالي الحديث". في المقابل، حذّر ممثل "تنسيقية أزواد" دجيري مايغا، من أن يبقى هذا الاتفاق "حبراً على ورق مثل الاتفاقات السابقة، في حال لم تلتزم كل الأطراف بمسؤولياتها".
وفي بادرة تعكس الاهتمام الفرنسي بهذه المصالحة، يزور وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، اليوم الاثنين، باماكو، لتسجيل الحضور الفرنسي والتعبير عن دعم باريس المطلق لاتفاق المصالحة. والواقع أن فرنسا هي المستفيدة الكبيرة من هذا الاتفاق، لأن تصاعد التوتر في شمال مالي كان ولا يزال يعرقل حرب الاستنزاف التي تشنّها فرنسا عبر عملية "برخان" ضد التنظيمات الجهادية وعصابات التهريب في شمال ومنطقة الساحل.
وتأمل فرنسا والأمم المتحدة أن يتمخّض تبني اتفاق المصالحة مع المتمردين الطوارق إلى الوقف الفوري للمواجهات العسكرية شمال البلاد بين المقاتلين الطوارق والقوات الحكومية، وتثبيت هدنة سلام طويلة الأمد تفسح المجال لتطبيق بنود اتفاق المصالحة.
اقرأ أيضاً: سلام مالي: اتفاق "مجاملة سياسية" يهدد بعودة الحرب الأهلية
اتفاق لا يلبي طموح الاستقلال
وينص الاتفاق على إنشاء مجالس محلية بصلاحيات واسعة ومنتخبة بالاقتراع العام والمباشر، وعلى ضم الأجهزة الأمنية في البلاد لأعداد كبيرة من الطوارق. لكن الاتفاق لا ينص كما كان يطالب الطوارق، على منح استقلال ذاتي أو نظام فيدرالي للشمال المالي. كما أن الاتفاق لا يلبي مطلب "التنسيقية" الأساسي بالاعتراف بتسمية "أزواد" التي يطلقها الطوارق على منطقة الشمال، لكن الحكومة المركزية التزمت باحترام التنوع العرقي والثقافي لمنطقة الشمال وخصوصياتها الجغرافية والاجتماعية.
وعلى الرغم من توقيع "تنسيقية أزواد" لاتفاق المصالحة، تسود مخاوف حول مدى التزام المقاتلين الطوارق والعرب في الميدان باحترام الهدنة وترك السلاح بعد أن قاتلوا لسنوات من أجل استقلال الشمال أو على الأقل انتزاع حكم ذاتي واسع في ظل فيدرالية مالية. كما أن المراقبين يخشون من تمرد القواعد المقاتلة على القيادات التي وقّعت على الاتفاق وحدوث انشقاقات داخل "التنسيقية" لكون العلاقات متشعبة ومعقّدة بين المقاتلين الطوارق والعرب الماليين وبين التنظيمات الجهادية الجزائرية التي تنشط في المنطقة، كما أن هؤلاء المقاتلين تربطهم علاقات وثيقة بعصابات التهريب التي تنشط في منطقة الساحل وتشكّل مصدراً مهمّاً في تمويل نشاطهم. ومن بين المؤشرات التي تعكس تعقّد تطبيق الاتفاق، خروج تظاهرات، السبت الماضي، في مدينة كيدال، معقل الطوارق، تندّد بالاتفاق رفعت شعار "الشهادة ولا الذل"، في إشارة إلى كون الاتفاق يخيّب آمال الطوارق في الاستقلال الفعلي.
وكان شمال مالي قد سقط في مارس/ آذار من العام 2012 تحت سيطرة التنظيمات الجهادية المرتبطة بتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، التي طردت الجيش المالي بسرعة مذهلة وأقرت الحكم بالشريعة الإسلامية في كبرى مدن الشمال، خصوصاً في تومبوكتو. وتصاعدت المخاوف الدولية من تحوّل شمال مالي إلى قاعدة قوية للتنظيمات الجهادية تهدد دول منطقة الساحل، من ليبيا إلى الجزائر مروراً بموريتانيا والنيجر ونيجريا. وهذا ما دفع بفرنسا إلى التدخل العاجل وإطلاق عملية "سرفال" بدعم من الأمم المتحدة، وهي العملية التي نجحت إلى حد كبير في إبعاد التنظيمات الجهادية عن الشمال وتشتيت شملها. إلا أن الخلايا الجهادية لا تزال تنشط في المنطقة وتقوم بعمليات عسكرية من حين لآخر على الرغم من أن القوات الفرنسية نجحت في اغتيال عدد من القيادات الجهادية البارزة عبر عمليات نوعية للقوات الخاصة والطائرات من دون طيار.
اقرأ أيضاً: فرنسا بمواجهة جهاديي مالي: إبعادهم عن الطوارق لإضعافهم