على الرغم من الهدوء الميداني الحذر في محافظة إدلب السورية، والحديث الروسي عن مشاورات بشأن مصير المنطقة، إلا أن المخاوف من هجوم وشيك يعده النظام السوري بغطاء روسي لا تزال مسيطرة، بعد توالي المؤشرات الروسية حول وجود نية للتصعيد. وبينما كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يعلن، أمس الأربعاء، أن موسكو لا تزال على اتصال بالولايات المتحدة بشأن الوضع في محافظة إدلب السورية، بعد تأكيد موسكو أنها تناقش الوضع في إدلب وفي منطقة عفرين بسورية مع إيران وتركيا وكذلك مع المعارضة والنظام، جاء هجوم لافروف على المسلحين ووصفهم بأنهم "خُراج متقيح يحتاج تطهيراً" ليعزز من فرضية العمل العسكري. أما الأمم المتحدة فكانت واضحة في تحذيراتها من أن مستوى الكارثة الإنسانية سيكون هائلاً في منطقة إدلب، إذا ما شهدت عملية عسكرية، متوقعة أن تؤدي إلى تهجير ما لا يقل عن 800 ألف شخص يعيشون أصلاً في وضع إنساني مأساوي.
وفيما تُعتبر حالياً "هيئة تحرير الشام" (التي تعتبر جبهة النصرة عمودها الفقري)، العقدة الميدانية الأبرز، التي سيلعب شكل التعامل معها دوراً حاسماً في رسم المستقبل القريب، لآخر مناطق "خفض التصعيد" في إدلب وأرياف اللاذقية وحماة وحلب المتصلة بها، فإن مسألة مصير هذه المنطقة، بغض النظر عن توزع واتجاه القوى على الأرض فيها، غير محسوم، خصوصاً بعد ما شهدته الساعات الماضية من مشاورات وتراشقٍ إعلامي، وحشد وتهديد عسكري، بين معسكري روسيا والنظام وإيران من جهة، والعواصم الغربية، بقيادة أميركا وفرنسا وبريطانيا، من جهة أخرى، فيما تتجه الأنظار إلى إيران، إذ من المفترض أن تعقد قمة ثلاثية، روسية تركية إيرانية، حول سورية، في مدينة تبريز في 7 سبتمبر/ أيلول المقبل، بعد تراجع فرصة انعقاد قمة رباعية في تركيا، بين فرنسا، وألمانيا، وروسيا، وتركيا. وأكدت وزارة الخارجية الروسية أن نائب المبعوث الأممي إلى سورية، رمزي عز الدين رمزي، سيزور موسكو في 4 سبتمبر/ أيلول المقبل لإجراء مباحثات مع عدد من المسؤولين الروس.
وتصدر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أمس الأربعاء، الحراك السياسي لبحث وضع إدلب، إذ اجتمع مع نظيره السعودي، عادل الجبير، في موسكو، مشيراً إلى أنه على اتصال مع الأميركيين بشأن الوضع في إدلب. وشن لافروف، خلال مؤتمر صحافي، هجوماً على المسلحين في إدلب وعلى أميركا. ووصف المسلحين بأنهم "خُراج متقيح يحتاج تطهيراً"، معرباً عن أمله ألا يعمد الغربيون إلى "عرقلة عملية مكافحة الإرهاب" في إدلب. وقال لافروف "إنها (إدلب) آخر بؤرة للإرهابيين الذين يحاولون استغلال صفة منطقة خفض التصعيد، ويحاولون احتجاز السكان المدنيين كدروع بشرية، كما يحاولون فرض أنفسهم على التشكيلات المسلحة المستعدة للتفاوض مع الحكومة". وأضاف "لا بد من العمل بشكل عاجل على الفصل بين المعارضة والإرهابيين، ويجب التحضير، في الوقت ذاته، لعملية ضد الإرهابيين في إدلب، والقيام بكل ما يمكن لتقليل الضحايا في صفوف المدنيين. ولذلك، من جميع وجهات النظر، يجب القضاء على هذا الخُراج". وأعلن أن روسيا ما زالت على اتصال بالولايات المتحدة بشأن الوضع في محافظة إدلب، وذلك بعد ساعات من الإعلان عن أن موسكو تناقش الوضع في إدلب وفي منطقة عفرين مع أنقرة وطهران وكذلك مع المعارضة والنظام السوري. وأعلن لافروف أنه بحث مع الجبير الأوضاع في إدلب و"ضرورة فصل الإرهابيين عن المعارضة". وأشار إلى أن موسكو والرياض "ملتزمتان بالنهج المشترك حول تشكيل اللجنة الدستورية السورية قبيل بدء المفاوضات بين الحكومة والمعارضة".
وشنّ لافروف هجوماً كلامياً على واشنطن. وقال "عندما يقوم الأميركيون بتأجيج المشاعر حول إدلب، ويهددون الحكومة السورية مجدداً بالعقاب في حال أقدمت على استخدام سلاح كيميائي، نتساءل من أين يمكن أن تكون لديها أسلحة كيميائية في حال قمتم بالتخلص منها مع الفرنسيين والبريطانيين؟". وأضاف أن "انطباعاً يتشكل بأن تهديدات الولايات المتحدة لدمشق، تهدف لمنع طرد الإرهابيين من منطقة خفض التصعيد في إدلب". وأشار إلى أنه تم التطرق إلى هذه القضية خلال المباحثات مع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، ومستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي، جون بولتون. وقال الجبير، من جهته، "بحثنا الأوضاع في سورية، وأهمية تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 والوصول إلى الحل السياسي والحفاظ على وحدة أراضي سورية وأمنها واستقرارها وحقوق كل المواطنين السوريين بغض النظر عن عرقهم ودينهم". وأضاف "نحن نعمل مع المعارضة السورية لتوحيد صفها فيما يتعلق بمستقبل سورية، كما نتشاور مع الأصدقاء في روسيا فيما يتعلق بسبل دعم العملية السياسية إلى الأمام".
وبينما تعيش علاقات أنقرة بموسكو مرحلة تحالفٍ نسبي، ويبدو التنسيق بين الجانبين في أعلى مستوياته، مع كثرة الاجتماعات بين المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين من الدولتين، التي بلغت ثلاث مرات، في أقل من أسبوعين، فإن ذلك لا يُظهر أن الموقف التركي يميل للرؤية الروسية حيال شمال غرب سورية، في إدلب ومحيطها، ولا يُبدي هذا الموقف بنفس الوقت، حماسة للمعسكر الآخر الذي تقوده واشنطن، داعمة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تحاربها تركيا. ووفق قائمة وخارطة الدول، التي لها نفوذ في سورية، وفي شمال غرب سورية تحديداً، حيث تتجه الأنظار هذه الأيام، فإن تركيا تُعتبر الدولة الوحيدة التي لها حدود برية واسعة الامتداد، مع سورية، بطول نحو 900 كيلومتر، وترى أن ذلك يُشكل تهديداً مباشراً على أمنها القومي، مع التمدد الكبير خلال السنوات القليلة الماضية، لنفوذ "قسد" المُشكلة أساساً من "وحدات حماية الشعب" الكردية، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي.
ورغم أن "قسد" ضعفت شوكتها شمال غرب سورية، بعد طردها من عفرين بعملية "غصن الزيتون"، فإنها أعلنت مراراً استعدادها للمشاركة في الهجوم على إدلب، إن بدأ، بزعم المساهمة في دعم جهود مكافحة الإرهاب. ولعل هذه النقطة، تعتبر أحد عوامل ضغط تركيا على حلفائها الدوليين وسواهم، لتبقى منطقة "خفض التصعيد" في إدلب قائمة تحت إشرافها. كما أن تحول منطقة إدلب ومحيطها إلى وجهة لجميع الخارجين ضمن ما تسميه المعارضة السورية "اتفاقيات التهجير"، من ريف دمشق وشمال حمص مع جنوب حماة وأخيراً محافظة درعا، جعلها تكتظ بملايين المدنيين، سواء سكانها المحليين أو الوافدين الجدد إليها، إذ تتفق معظم الإحصاءات على أن عدد السكان هناك يتجاوز الآن ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، الأمر الذي يقلق تركيا، لكون حدودها ستشهد موجات نزوحٍ ضخمة، إن أعطت روسيا ضوءاً أخضر للنظام في إدلب. وهذا الأمر حذرت منه المتحدثة باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في دمشق، ليندا توم، التي أشارت، في مقابلة مع "فرانس برس"، إلى أن أي هجوم على إدلب سيكون "كارثياً" وقد يؤدي إلى تهجير ما لا يقل عن 800 ألف شخص يعيشون أصلاً في وضع إنساني مأساوي.
وتركيا تأمل، وفق تصريحات كبار المسؤولين فيها، أن توسع "المناطق الآمنة" في الشمال السوري، كي يتسنى لأكبر عدد ممكن من ملايين اللاجئين المقيمين فيها، العودة لسورية، بينما الحرب على إدلب ستقوض هذه الآمال، إذ لا وجهة نزوح لملايين المدنيين في شمال غرب سورية في حال بدأت معركة إدلب، إلا نحو مناطق "درع الفرات" وعفرين المكتظة أساساً، أو نحو الحدود التركية. ومن المؤكد أن اجتماعات وزيري الخارجية والدفاع التركيين، برفقة رئيس الاستخبارات، مع نظرائهم الروسي في موسكو (مرتين خلال أسبوع)، تطرقت إلى هذه النقاط. وتدور كل المُعطيات المتوفرة حالياً، عن جهود تقودها تركيا، عبر قنوات تواصلها في شمال غرب سورية، إلى دفع "هيئة تحرير الشام" نحو خيار حل نفسها. وفي الوقت الذي تجيش فيه وسائل إعلام النظام للحملة العسكرية، التي تقول إنها ستنطلق قريباً في محافظة إدلب، فقد حملت التصريحات القليلة الصادرة عن قياديين عسكريين في المعارضة نبرة تحدٍ وتوعد، في حال أقدم النظام بعد موافقة روسيا، على فتح المعركة. وتداول في اليومين الأخيرين بعض النشطاء السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي ما قالوا إنها أنباء أولية عن احتمالية موافقة "هيئة تحرير الشام" على حل نفسها، بعد أن تحدث مُغردٌ "جهادي" يدعى "أس الصراع" على "تويتر" بأن الهيئة "بدأت منذ ساعات بحل نفسها"، وأن قادتها "قدموا العقل على العاطفة والمزايدات".
واستقصى "العربي الجديد" شخصيات عدة مُطلعة على خارطة القوى "الجهادية" في سورية وأيديولوجياتها، لمعرفة حقيقة مسألة حل "هيئة تحرير الشام" نفسها، لكن يبدو أن لا معلومات مؤكدة حتى أمس الأربعاء حول المسألة، التي وصفها خبير بالجماعات الجهادية بأنها "مُعقدة، ومحكومة بعدة عوامل، أهمها أن طريقة تفكير هيئة تحرير الشام أو جبهة النصرة باتت غير مستقرة في السنوات الأخيرة، إذ تُظهر أحياناً صلابة في التمسك بعقيدتها، وفي أحيان أخرى تبدو براغماتية تتعاطى مع التغيرات بمرونة، وبالتالي لا يُمكن حتى الآن الجزم بالقرار الذي ستتخذه الهيئة". وقال الخبير، الموجود في شمال غرب سورية والذي طلب عدم الكشف عن هويته لـ"حساسية المرحلة"، إن "قيادة هيئة تحرير الشام تدرك اللحظة الحرجة بالنسبة لها، وضرورة المضي باتجاه الحل، لكنها بالمحصلة، ستصطدم في حال اتخذت قرار حل تشكيلاتها، بانفراط بنيتها التنظيمية، كون العديد من قيادييها وعناصرها سيتخلون عن تبعيتهم لها، وسيتجهون غالباً نحو جماعة أنصار الدين والمجموعات الجهادية الأخرى".
بالتزامن مع كل ذلك، تبدو الحياة في محافظة إدلب، ومحيطها، هادئة هذه الأيام، رغم التوتر والقلق المتزايدين لدى السكان هناك، حيال ما يُخطط لمستقبل مناطق سكنهم. وباستثناء قصف مدفعي متقطع لقوات النظام في ريف حماة الشمالي، وفي محيط جسر الشغور نحو مناطق سهل الغاب شمال غرب حماة، واشتباكات محدودة بين النظام والمعارضة في غربي محافظة حلب، ناحية جبهة البحوث العلمية، فإن مختلف الجبهات ونقاط التماس تبدو هادئة مع تحصينات دفاعية جديدة، وتعزيزات عسكرية تتزايد على طرفي خطوط الجبهات، استعداداً لتطور ما قد يبدأ إذا وُجدَ غطاء سياسي. ودفع الجيش التركي، خلال اليومين الماضيين، بمزيد من التعزيزات العسكرية نحو إقليم هاتاي، حيث تدخل قوات ومدرعات تركية نحو النقاط الـ12 التي أقامها الجيش التركي، في إدلب ومحيطها. ووفق روايات شهود عيان، لـ"العربي الجديد"، فإن الجيش التركي، يُعزز بعض نقاط المراقبة بمتاريس إسمنتية، ومدرعات جديدة، بما فيها نقطة المراقبة قرب مدينة مورك شمال حماة.
ازدحام في المتوسط
ووفق تقاطع معلومات لمراصد بحرية ونشطاء، فإن حشد القطع البحرية الروسية في المتوسط غير مسبوق، إذ وصلت 13 قطعة بحرية روسية قبالة السواحل السورية خلال أسبوع فقط، مبحرة من مواقعها على شواطئ البحر الأسود إلى البحر المتوسط. وتقول وزارة الدفاع الروسية إن المُدمرة الأميركية "ROSS" قد وصلت قبل أربعة أيام إلى البحر المتوسط، وقد تُستخدم لقصف مواقع سورية، في حال وقع هجوم كيميائي في محافظة إدلب. لكن البنتاغون نفى هذه المعلومات، ذاكراً أن الولايات المتحدة مستعدة فعلاً لشن أي هجومٍ، حال تلقت أوامر قيادتها السياسية. وشهد مجلس الأمن الدولي، مساء أول من أمس، جلسة خصصت لبحث الوضع في سورية، وتخللها اتهامات، واتهامات مضادة بين روسيا، وسفراء دول غربية، حول هجوم كيميائي، تقول موسكو إنها رصدت الإعداد له، من قبل "الجماعات الإرهابية" في سورية وتحديداً "هيئة تحرير الشام"، فيما حذرت الدول الغربية من "كارثة إنسانية"، إذا ما تم فتح عملية عسكرية بإدلب.