رغم أن جميع التكهنات والتقديرات الصادرة عن مدراء أكبر مؤسسات الأبحاث واستطلاعات الرأي في تركيا تشير إلى تفوق ضئيل في نسبة مؤيدي التعديلات الدستورية على المعارضين لها، إلا أن صفوف حزب "العدالة والتنمية" في أنقرة لا تبدو واثقة تماماً من إمكانية تمرير التعديلات الدستورية في الاستفتاء المرتقب في 16 إبريل/ نيسان الحالي، بل وأكثر من ذلك، يمكن الحديث عن وجود تيار يعد أقلية في صفوف الحزب من المعارضين الصامتين لهذه التعديلات، والذي قد يصوت أركانه بالرفض، دون إثارة الضجيج.
في قلب العاصمة أنقرة، أي منطقة جانكايا، حيث تتجمع أهم معالم الجمهورية التركية، كمبنى البرلمان وضريح كمال أتاتورك ومحكمة التمييز العليا وغيرها، تبدو الحياة طبيعية وهادئة، بل وتختفي الحملات في الشوارع الرئيسية وقرب مؤسسات الجمهورية، لتعود وتظهر مرة أخرى في الشوارع الفرعية.
يرفض عثمان فكرة أن هذه التعديلات ستحيل تركيا إلى جمهورية ديكتاتورية، أو جمهورية الرجل الواحد. وكالكثير من المواطنين الأتراك، فإن الديكتاتورية في عقولهم باتت تتمثل بنظام بشار الأسد، كما تنحصر تجربة الانتخابات الرئاسية بالانتخابات الرئاسية المباشرة التي جرت لأول مرة في تاريخ الجمهورية في أغسطس/ آب 2014، والتي انتهت بفوز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من الجولة الأولى بحصوله على أكثر من خمسين بالمائة من الأصوات. ويذكر عثمان أنه "لا يمكن أن يأتي رئيس أقلية إلى الحكم في تركيا كما في سورية، طالما أن الانتخابات ستنصّب الرئيس بفوزه بأكثر من خمسين بالمائة من الأصوات، وأردوغان لن يبقى إلى الأبد، ثم إن تركيا لا يمكن أن تقبل التوريث"، وفق تعبيره.
لا يخفي الناشطون في صفوف "العدالة والتنمية" قلقهم من السيناريوهات المقبلة بشأن مستقبل تركيا مهما كانت نتيجة الاستفتاء، سواء بالقبول أو بالرفض. وعلى الرغم من الارتياح الكبير الذي سيرافق تمرير التعديلات الدستورية على المستوى السياسي الداخلي والاقتصادي، وكذلك في ما يخص السياسة الخارجية والتعاون مع واشنطن والمعارك ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سورية، والتركيز بشكل أكبر على إعادة صياغة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بشكل مختلف، إلا أن البعض يخشى من أن يؤدي تمرير التعديلات إلى المزيد من التصعيد مع الغرب، خصوصاً مع الاتحاد الأوروبي، الذي يحارب هذه التعديلات بشكل علني. ويتوقع هؤلاء أن تكون لإقرار التعديلات تبعات سلبية على الاقتصاد التركي، مع أن الغالبية تؤكد أن ما بعد الاستفتاء لن يشهد تحولاً دراماتيكياً بالتعامل مع الاتحاد الأوروبي.
يعلم الجميع بأن تياراً صامتاً داخل الحزب يرفض هذه التعديلات ويتمثل ببعض الشخصيات القيادية من المؤسسين. ويأتي في طليعة هذا التيار، الرئيس التركي السابق، عبدالله غول، ورئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، ونائب رئيس الوزراء السابق بولنت أرينج، إضافة إلى بعض الشخصيات البارزة في الحزب والآتية من تيار يمين الوسط من ورثة حزب "الطريق القويم" الذي أسسه سليمان ديميريل. ومن بين هؤلاء هناك وزير الثقافة السابق، حسين جيلك، إضافةً إلى بعض الشخصيات الآتية من ميراث حزب "الوطن الأم" الذي أسسه الرئيس التركي الراحل، تورغوت أوزال.
يقول أحد القياديين في التشكيلات الحزبية لـ"العدالة والتنمية"، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الجميع في الحزب يعلم بأن التيار المعارض للتعديلات بصمت يقوده الرئيس غول، ولذلك أسباب عديدة، منها ما له علاقة بالاعتراض المبدئي المستند إلى فكرة أن التعديلات الدستورية لا تضمن الرقابة والمحاسبة على السلطات التنفيذية بما يكفي، ولا تمنح السلطة القضائية الاستقلالية الضرورية عن السلطة التنفيذية، ومنها ما له علاقة بالأمور الشخصية". وفي هذا الصدد، يضيف المصدر نفسه أن "العمل على التعديلات الدستورية تم بشكل أساسي بين كل من أردوغان ورئيس الوزراء، بن علي يلدريم، وزعيم حزب (الحركة القومية)، دولت بهجلي، وغالباً ما تضمّن اتفاقيات جانبية سرية، ولم تتم استشارة القيادات المؤسسة للحزب أثناء العمل عليها"، وفق تأكيده.
وهناك في كواليس "العدالة والتنمية" قلق واضح مما سيترتب على نتائج الاستفتاء من تغييرات، سواء كانت النتيجة بالموافقة، أو بالرفض. وهناك الكثير من السيناريوهات التي يجري الحديث عنها، بينما يرى البعض أنه لن تكون هناك أي تبعات على الاستقرار السياسي في حال رُفضت التعديلات، من باب أن الحكومة ستستمر في عملها لغاية الانتخابات المقبلة عام 2019. إلا أن آخرين يرون أن هذا أمر مستحيل، إذ إن رفض التعديلات سيزعزع الشرعية السياسية للحكومة الحالية، ويرون أن التوجه لتنظيم انتخابات مبكرة سيكون بالتالي أمراً حتمياً، ويجب أن تجري بحد أقصى في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بحسب تقديرات البعض.
ويصل الأمر ببعض القيادات إلى التكهن بأن المعارضة، وبالذات حزب "الشعب الجمهوري" (الكماليون)، لن تفوّت هذه الفرصة ولن تتأخر أكثر من أيام قبل النزول إلى الشارع طلباً لإجراء انتخابات مبكرة، بل وربما يذهب زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، نفسه إلى طلب انتخابات مبكرة، بعد سقوط الاتفاق بينه وبين "العدالة والتنمية"، وبحجة الحفاظ على الاستقرار السياسي، وهو الذي لديه تاريخ في طلب التوجه إلى انتخابات مبكرة، كما حصل عام 2002، مع أنه كان يعلم بأنها قد تخرجه وحزبه من البرلمان.
على الصعيد الحزبي الداخلي، يبدو أن الأمور ستكون أصعب للغاية في حال رفض التعديلات. وستعتبر بعض القيادات الحزبية أن سقوط مشروع التعديلات في الاستفتاء الشعبي سيكون فرصة ملائمة لتحرك المعارضة الداخلية بقيادة غول وداوود أوغلو وأرينج، نحو تشكيل حزب جديد، بسبب العلاقة التي تراجعت بشكل كبير بين هؤلاء القادة والرئيس أردوغان. لكن سيناريو كهذا يصطدم بالعديد من العقبات، ومنها أن هذا التكتل لا يمتلك سوى ما يقارب عشرة نواب في البرلمان ومعظمهم يأتون من خلفيات لا علاقة لها بالعمل المباشر في الشارع. كما أن هؤلاء القياديين الأتراك يفتقدون للعدد الكافي من الكوادر الحزبية القادرة على التنظيم، والأهم من هذا كله، أنهم لا يمتلكون طبقة واسعة من رجال الأعمال الداعمين لهم، ولا حتى وسائل الإعلام القادرة على مواجهة ماكينة الإعلام الضخمة الموالية لأردوغان.
ويؤكد بعض المراقبين أن الأمور لن تستمر كما هي عليه الآن في حال فشل تمرير التعديلات الدستورية، بل ستؤدي إلى عودة التيار المعارض إلى الواجهة مرة أخرى. وفي هذا الصدد، سيكون المشهد السياسي التركي أمام عدة سيناريوهات. ويرى مراقبون أن غول وداوود أوغلو سيعودان للنشاط في الحياة السياسية، وربما يعملان على الضغط باتجاه عقد مؤتمر لحزب "العدالة والتنمية"، ينتهي باختيار أحدهما زعيماً يعمل على الوصول إلى رئاسة الحكومة، ومن ثم كتابة تعديلات دستورية توافقية. ويرى آخرون أن حصول تحول سياسي كهذا قد يدفع أردوغان لتقديم استقالته من رئاسة الجمهورية وللعودة إلى زعامة الحزب، ومن ثم قيادته في الانتخابات التشريعية، لكي يتولى منصب رئاسة الوزراء، ويعمل لاحقاً على تعديلات دستورية، أو ربما دستور جديد، يأخذ بعين الاعتبار الاعتراضات الحالية التي من المحتمل أن تؤدي إلى عدم إقرار التعديلات الدستورية.
كذلك، ترى بعض القيادات الحزبية في "العدالة والتنمية" أن السيناريوهات المطروحة مستحيلة التطبيق. ويقول أحد القيادات الحزبية لـ"العربي الجديد": "صحيح أن الخيارات مفتوحة على جميع الاحتمالات، إلا إن عودة مجموعة غول وداوود أوغلو إلى الحزب تبدو صعبة، لأن العلاقات وصلت لحد اللاعودة، وفي حال تشكيلهم لحزب جديد، فقد لا ينجح هذا الحزب حتى في تجاوز العتبة البرلمانية ودخول البرلمان". ويضيف أن "هناك أمراً في غاية الأهمية، يتمثل في أن أردوغان رجل براغماتي جداً، ولمقاومة الكوادر الحزبية بالنسبة له حدود، ولا يرى ضيراً في الانصياع لرأي أغلبية الكوادر الحزبية في أي وقت"، بحسب قول المصدر. وفي حال لم يتم تمرير التعديلات الدستورية، فإن ردة فعل أردوغان الأقرب، ستكون، في نظر المصدر نفسه، "الانكفاء إلى القصر الرئاسي والعمل على إدارة شؤون البلاد، كما فعل معظم الرؤساء الأقوياء في تاريخ البلاد عبر القنوات الخلفية، وكما فعل أردوغان ذاته في فترة تولي داوود أوغلو لرئاسة الوزراء". ويختم بالقول إنه "في ما يخص الحزب، فإن إرضاء الكوادر الحزبية ليس أمراً صعباً (بالنسبة لأردوغان)، وسيتم ذلك خلال مؤتمر حزبي بمساعدة يلدريم، الرجل الأكثر براغماتية وهدوءاً في السياسة، وهذا أمر سهل للغاية"، وفق القيادي بحزب "العدالة والتنمية".