سوّق الإعلام المصري لقرار السيسي باعتباره "انتصاراً للبسطاء". وصدرت معظم الصحف اليومية، أول من أمس الجمعة، حاملة في صفحتها الأولى تلك العبارة. وذهبت صحيفة "اليوم السابع" إلى أبعد من ذلك بنشر عنوان عريض "الرئيس ينتصر للشعب"، في محاولة لتصوير السيسي كالذي يتدخل لرفع المظالم الواقعة من حكومته على المواطنين. لكن الخطاب الإعلامي بالكامل لم يعرض على أصحاب المعاشات الموقف السياسي والقانوني والظروف التي دعت السيسي لاتخاذ هذا القرار. كما تم تجاهل شرح تبعات قرار السيسي بعرض الحكم على الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة لدراسة كيفية تنفيذه، وهو ما يعني أن الحكومة في الواقع لن تنفذ الحكم بصورته الحالية.
مصادر حكومية في وزارة التضامن الاجتماعي، المعنية جزئياً بتنفيذ هذا الحكم بالتعاون مع وزارة المالية، قالت في حديث مع "العربي الجديد"، إن الوزارة ستثبت، اليوم الأحد، أمام محكمة الأمور المستعجلة تخليها عن الخصومة في الاستشكال على الحكم، والذي كان يستند إلى عيوب عدة تضمنها الحكم من وجهة نظر الحكومة. أول هذه العيوب أن مجلس الدولة، الذي تعلو درجاته القضائية المحكمة الإدارية العليا، غير مختص بنظر القضية لأنها من اختصاص الدوائر العمالية في المحاكم الابتدائية، باعتبارها أمراً يخص الموظفين وأصحاب الأعمال الذين يسددون عنهم الاشتراكات. ومن بين العيوب الإضافية التي تتحدث عنها الحكومة أن الحكم صدر بالمخالفة للمادة 142 من قانون التأمين الاجتماعي التي تسقط المعاشات التي تمضي عليها سنتان دون إخطار. كما تعتبر الحكومة أن الحكم تسرع في الفصل في القضية رغم ارتباطها بدعاوى مقامة أمام المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستورية بعض مواد قانون التأمين الاجتماعي.
وأضافت المصادر أن سحب الاستشكال لا يعني أبداً أن الحكومة ستنفذ الحكم بالطريقة التي يتصورها أصحاب المعاشات والمواطنون الذين تلقوا معلوماتهم من وسائل الإعلام المحلية "فالمكتب نفسه داخل الوزارة الذي أرسل مذكرة سحب الاستشكال، يعد حالياً مذكرة بمصاعب وعقبات تنفيذ الحكم بصورته ليرسلها خلال أيام إلى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، للتأكيد على عدم إمكانية تنفيذ الحكم بحالته".
ووفقاً للمصادر، فإن هناك مشكلة ضخمة تمنع وزارة المالية من تنفيذ الحكم، هي أن صناديق المعاشات لها مديونية ضخمة تستخدمها الدولة بانتظام منذ ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 بضمان بنك الاستثمار القومي. وبالتالي فإنه لا توجد أي موارد مالية لتمويل المبالغ المحكوم بها، والتي تصل وفقاً لحسابات قطاع التأمين بوزارة التضامن إلى 8 مليارات جنيه (463 مليون دولار) تقريباً، حتى بعدما خفف حكم الإدارية العليا الأعباء عن كاهل الدولة وراعى الظروف المالية الصعبة بتطبيق الاستحقاق مع مراعاة التقادم الخمسي وبدون أثر رجعي.
أما عن سبب سحب الاستشكال طالما لن يتم تنفيذ الحكم، فقالت المصادر إن "المسألة سياسية بحتة، إذ تزايد غضب أصحاب المعاشات الذين يصل عددهم إلى 8 ملايين شخص، في مجموعاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي وندواتهم وهددوا بمقاطعة الاستفتاء على التعديلات الدستورية المقبلة أو التصويت بمعارضتها انتقاماً من السيسي، الذي لم يكن موعد صدور الحكم في صالحه". وأشارت المصادر إلى أن "تسويق القرار باعتباره انتصاراً لأصحاب المعاشات يستهدف الترويج السياسي قبيل الاستفتاء ولا شيء آخر، لأن الحكم لن يتم تنفيذه بالصورة التي يتوقعها المواطنون".
وتوقعت المصادر أن تكون إحالة القضية إلى قسم الفتوى "تمهيداً لصدور قانون يمنع تنفيذ الحكم، ويضع شروطاً خاصة للاستحقاق مستقبلاً". ويدعم هذا التوقع ما جاء في بيان الرئاسة من أن السيسي وجه وزير المالية، الذي فوجئ بهذه المشكلة ولم يكن يحسب اعتباراتها لدى إعداده للموازنة الجديدة، بأن يعد تشريعاً خاصاً لتنظيم الإجراءات الخاصة برد إجمالي المديونية المستحقة لصناديق المعاشات، اعتباراً من موازنة العام المالي القادم 2019 - 2020.
واعتادت الحكومة المصرية منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك عند صعوبة تنفيذ أي حكم قضائي أو رغبتها في التهرب منه أو الالتفاف عليه، أن تلجأ إلى وزارة العدل أو قسم الفتوى بمجلس الدولة أو تنشئ لجنة خاصة، بدعوى دراسة كيفية تنفيذ الحكم. مع العلم أن العديد من هذه الأحكام، وأبرزها وآخرها حكم العلاوات الخمس يحدد بشكل واضح طريقة تنفيذه، بل إن الحكم الأخير تدخل في طريقة احتساب العلاوة من إجمالي المعاش بالنسبة والتاريخ. كما أوصى الحكم نفسه الحكومة بعدم إصدار قوانين لاحقة بضم العلاوات، باعتبار أن المادة 5 من قانون التأمين الاجتماعي تحدد أسس احتساب المعاش ومن بينها إضافة الأجر المتغير ضمن عناصر الاحتساب.
وتسببت مثل هذه الإجراءات في عدم تنفيذ أحكام شهيرة عديدة، مثل وضع حد أدنى للأجور للعاملين على المستوى القومي عام 2009 والذي لم يتم تنفيذه إلا بعد ثورة يناير وبشكل جزئي، وأحكام بطلان خصخصة شركات القطاع العام، مثل المراجل البخارية وشبين الكوم للغزل والنسيج وطنطا للكتان، والتي صدرت في 2011 ولم تنفذ أبداً، وحكم بطلان بيع أرض مشروع "مدينتي" لرجل الأعمال هشام طلعت مصطفى الصادر في 2010 ولم يتم تنفيذه بالشكل الذي نص عليه الحكم بحجة الحفاظ على الاستثمارات وأصحاب الحقوق حسني النية.