تعكس التشكيلة الحكومية التونسية الجديدة، والتي قُدّمت مساء أول من أمس الأربعاء، توجّهاً جديداً لرئيسها الحبيب الصيد، مقارنة بحكومته الأولى، وسط انتظار تغييرات حقيقية على الوضع العام المتسم بحالة من التشاؤم في المسارات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. ولذلك تراجع الصيد عن خيارات حكومته الأولى المعتمدة على التكنوقراط، والتي لم تحقق النتائج المرجوّة، وعاد إلى الأحزاب التي منحته الثقة، ليُدعّم حضورها في حكومته الثانية من جهة، ويعتمد عليها من جهة أخرى لدعمه في خوض هذه التجربة الجديدة التي تحمل رهانات متعددة.
لكن هذه التشكيلة سرعان ما قوبلت بانتقادات عديدة، أبرزها قيامها على المحاصصة الحزبية، وغياب التشاور حولها، إضافة إلى الاتهامات بالتطبيع مع اختيار خميس الجيهناوي، على رأس وزارة الخارجية، وهو كان رئيساً لمكتب تونس في تل أبيب، بين 1996 و2000.
وجاءت أحزاب الائتلاف الحاكم الأربعة (نداء تونس، حركة النهضة، آفاق تونس، والاتحاد الوطني الحر) في الحكومة الجديدة، ممثلة بـ18 وزيراً من مجموع 26 وزيراً، من دون احتساب المستقلين القريبين من الأحزاب، على الرغم من حذف كل مناصب كُتّاب الدولة التي سبق ووُزعت في الحكومة الأولى لترضية الأحزاب، ما يعني أن هذه الحكومة الثانية هي حكومة سياسية بامتياز.
وفيما حافظ حزب "آفاق تونس" على الحقائب نفسها التي كانت معه من دون أي تغيير، وهي وزارات التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، وتكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرقمي، والمرأة والأسرة والطفولة، توسّعت مشاركة "نداء تونس" إلى تسع وزارات، وهي الخارجية والنقل والمالية والسياحة والصحة والشؤون الاجتماعية والتربية والشؤون المحلية والعلاقة مع مجلس النواب والمتحدث الرسمي باسم الحكومة.
وارتفعت أيضاً مشاركة "الاتحاد الوطني الحر" في الحكومة من ثلاث إلى أربع حقائب، بتعيين محسن حسن على رأس وزارة التجارة خلفاً لرضا لحول، إلى جانب وزارات البيئة، والشباب والرياضة، وأملاك الدولة.
غير أن المتغيّر الأكبر في نظر المراقبين، يتمثّل في تخلي حركة "النهضة" عن وجودها الرمزي داخل الحكومة ودخولها بقوة إلى التشكيل الجديد. وعلى الرغم من أنها كانت ممثلة بوزير وثلاثة كتّاب دولة، إلا أنها أصبحت اليوم بارزة الحضور في الحكومة الثانية، مع محافظة زياد العذاري على منصبه في وزارة التشغيل، وانضم إليه منجي مرزوق وزيراً للطاقة والمناجم، ونجم الدين الحمروني وزيراً مستشاراً لدى رئيس الحكومة مكلفاً باليقظة والاستشراف.
ولكن الجميع يعرف أيضاً أن تعيين وزير العدل الجديد عمر منصور، جاء بمبادرة ومباركة من "النهضة"، وكذلك وزير الشؤون الدينية الجديد محمد خليل خلفاً لعثمان بطيخ، الذي أطاحت به الحركة بعد سلسلة من الهجومات العنيفة، وكذلك وزير الداخلية الجديد الهادي المجدوب الذي يحظى بثقتها بما أنه سبق وأن عمل مع علي العريض عندما كان وزيراً.
ويعكس هذا الحضور المباشر وغير المباشر لـ"النهضة"، حسماً واضحاً لموضوع المشاركة الحكومية، بعد عدم رضى وتململ داخل عدد من قياداتها وقواعدها بسبب حضورها الأول الذي وُصف بالباهت. غير أن حضورها البارز سيجعلها في الوقت نفسه تتحمّل مسؤولية النجاح والفشل عشية الاستحقاقات الحزبية والوطنية المقبلة.
اقرأ أيضاً: تغييرات حكومية جديدة في تونس
المغادرون البارزون
فيما فوجئ عدد من المتابعين بمغادرة وزير الداخلية محمد ناجم الغرسلي، فإن مغادرة وزير الخارجية الطيب البكوش كانت منتظرة ومتوقعة. وعبّر عدد من النواب من "نداء تونس" بالذات عن غضبهم من إبعاد الغرسلي عند إعلان التعديل الحكومي، وهددوا بعدم المصادقة على التعيين الجديد.
لكن إزاحة البكوش من حقيبة الخارجية كانت منتظرة منذ أشهر، بسبب تباينات واضحة بينه وبين الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في ملف العلاقات الخارجية، وخصوصاً في الملفين السوري والليبي، إذ سارع البكوش إلى إعلان عودة العلاقات مع النظام السوري وهو ما نفاه السبسي مباشرة، مذكّراً بانه وحده يحدد خيارات السياسة الخارجية كما ينص على ذلك الدستور.
غير أن الخلاف سابق لذلك، فقد عُيِّن البكوش في الحكومة لإبعاده في مرحلة أولى عن "نداء تونس"، وانتظار الفرصة الملائمة لإزاحته من الحكومة وإبعاده نهائياً عن المشهد، بسبب خلاف استراتيجي حول التحالف مع "النهضة".
وظل البكوش متفرجاً على أزمة "النداء" من بعيد، ولم يقرر الانضمام إلى الجناح الذي يدعمه السبسي إلا في الأيام الخيرة، وبشيء من الحيادية. ولم يكن السبسي ينوي إقالته من الحزب لعدم تقديمه هدية لقسم الأمين العام المستقيل لـ"النداء" محسن مرزوق، غير أن البكوش الذي أراد التعبير عن دعمه لخط السبسي داخل الحزب، أحرق كل أوراقه مع مرزوق، حين اتهم في آخر اجتماع للحزب الأخير بتعطيل مصالح تونس في الخارج. وفيما كان البكوش يتصوّر أن هذا التصريح سينقذ حقيبته في الخارجية، كان في الواقع يحرق ورقة ضغطه الرئيسية، وهو ما تم بالفعل.
وتشير آخر المعلومات إلى أن البكوش سيُعيَّن على رأس الاتحاد المغاربي، بامتيازات وزير، ولكنه إبعاد تام عن الشأن الداخلي في تونس. غير أن البكوش يمكن أن يلعب أوراقاً جديدة على المستوى الحزبي، ويثأر لإبعاده من الحكومة والحزب. كما تلفت المعلومات أيضاً إلى إمكانية تعيين الغرسلي وكاتب الدولة للخارجية توهامي العبدولي في منصبيْ سفيرَين لتونس في المغرب والسعودية، ووزيرة الثقافة لطيفة الأخضر، ممثلة تونس لدى اليونسكو.
تراجع حضور المرأة
تعرّض التشكيل الحكومي الجديد إلى انتقادات كبيرة بسبب الحضور الباهت للمرأة التونسية فيه، إذ تقلّص عدد النساء من ثماني إلى ثلاث فقط، وهن وزيرة الثقافة سنيا مبارك، ووزيرة المرأة سميرة مرعي، ووزيرة السياحة سلمى اللومي. ويعود هذا التقليص إلى إلغاء منصب كتّاب الدولة الذي كان يرفع من تمثيل المرأة. وبالتوازي انتقد نواب وسياسيون حذف منصب كاتب الدولة للهجرة وكاتب الدولة لشهداء وجرحى الثورة، اللذين كانت تشرف عليهما مجدولين الشارني، والتي يبدو أنها ستُعيَّن على رأس محافظة.
غير أن الانتقاد الأهم جاء من "الاتحاد العام التونسي للشغل"، الذي يُعتبر أساس عملية الاستقرار الاجتماعي في تونس. فقد اعتبر الاتحاد في بيان له أن الصيد "أخلّ بتقليد التشاور والوفاق"، معتبراً الحكومة الجديدة "حكومة محاصصة حزبية ولم تعالج القصور والعجز في بعض الوزارات". وأشار إلى أن الصيد "عاقب بعض الوزراء الذين عبّروا عن نَفَس إصلاحي حقيقي، وجاء بوزراء لا علاقة لهم بأهداف الثورة ولا بمصلحة البلاد".
ودعا بيان الاتحاد "الأطراف المعنية ومجلس النواب إلى تحمل مسؤوليتهم في معالجة هذا الخلل"، وهو ما يعكس دعوة صريحة إلى رئيس الدولة بالتدخّل، وإلى النواب بمعارضة هذه الحكومة. وبغض النظر عن مواقف عدد من الأحزاب المُعارضة لهذا التشكيل، فإن موقف الاتحاد يبقى الأقوى والأعلى صوتاً وتأثيراً في تونس.
ويبدو الاتحاد منزعجاً من إقالة وزير الشؤون الاجتماعية عمار الينباعي الذي قاد على امتداد السنوات الماضية، كل المفاوضات بين الأطراف الاجتماعية حول الزيادة في الأجور، ويعتبر ناجحاً في مهامه السابقة بحكم التوصل على امتداد سنوات إلى إنهاء المفاوضات بالاتفاق، وخصوصاً بين الاتحاد والحكومة.
يشار إلى أنه تم استبدال الينباعي بوزير النقل السابق محمود بن رمضان، وهو وجه محسوب على اليسار في "نداء تونس"، وكان قد عبّر بوضوح عن موقفه الداعم للغاضبين في "النداء"، قبل أن يحضر آخر اجتماعات الهيئة التأسيسية للحزب، ولكنه نجح في الحفاظ على موقعه في الحكومة على عكس البكوش.
وعموماً لا يبدو أن الصيد قد يجد معارضة عددية في المصادقة على حكومته الجديدة، بدعم "آفاق تونس" و"الوطني الحر" و"النهضة" وشق من "النداء" لها، ولكن يُرجَّح ألا تحصل التشكيلة الجديدة على الأغلبية المطلقة التي حصلت عليها حكومته الأولى.
اقرأ أيضاً: محسن مرزوق يحدد تاريخ الانفصال رسمياً عن نداء تونس