استذكر الجزائريون، هذا العام، أكثر من أي سنة أخرى، مجزرتي الرايس وبن طلحة، اللتين وقعتا في شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول عام 1997، وكانت الجزائر تعيش حينها جنون الإرهاب الدامي في ما عرف بالعشرية السوداء، بعد خمس سنوات من انقلاب الجيش واستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد ووقف المسار الانتخابي. اليوم بعد 20 عاماً، لم تُمحَ آثار المجزرتين من النفوس والذاكرة على الأقل، حتى بعدما نجحت الجزائر في استعادة الأمن بشكل كبير، وتجاوزها بشكل نسبي تداعيات الفتنة الدامية.
في 23 سبتمبر/أيلول 1997 أفاق الجزائريون والعالم على وقع مجزرة بن طلحة، التي سقط فيها أكثر من 500 ضحية بين قتيل ومصاب بالرصاص والسكاكين والفؤوس، والتي تبنّتها "الجماعة الإسلامية المسلحة"، المعروفة بـ"الجيا"، وهي من أكثر التنظيمات الإرهابية الدموية التي عرفتها الجزائر في التسعينات. كانت هذه المجزرة إيذاناً بوصول البلاد إلى مرحلة الجنون الإرهابي، خصوصاً أنه سبقتها بشهر تقريباً مجزرة مروّعة أخرى ذهب ضحيتها نحو 238 قتيلاً، في منطقة الرايس القريبة من بن طلحة. وكان عام 1997 سنة الدم والهدم بتعبيرات الجماعة المسلحة، وسنة صدور فتوى تكفير المجتمع واستحلال دم كل من لا يقف في صف الإرهابيين.
كما أن البيئة الفقيرة والوضع الاجتماعي لسكان بن طلحة وضعا الأهالي بين نارين، نار المجموعات الإرهابية، ونار السياسة الأمنية التي كانت تنتهجها السلطات الجزائرية، في مقابل عجزها عن حماية المدنيين. كما وجد السكان أنفسهم بين تهمة التواطؤ مع الإرهابيين أو غض البصر عن تواجدهم ونشاطهم في المنطقة على الأقل، وبين تهمة المجموعات الإرهابية لجزء كبير من السكان بالخوف من السلطة والاستمرار في الدراسة والتدريس والعمل في المؤسسات الحكومية. فقد كانت المجموعات الإرهابية تسعى لمنع التدريس وخصوصاً تدريس الفتيات، والعمل في المؤسسات الحكومية، وتفرض قانونها على السكان، وتغتال كل من يتجاوز أو يتحدى تعليماتها، فيما كان جزء من السكان قد نزح أو حاول النزوح بعيداً عن الحي، طلباً للأمن والأمان، بينما وضعت الأقدار باقي السكان أمام مصيرهم المحتوم.
يتذكر العالم مجزرة بن طلحة في الجزائر، عبر صورة جابت صدر الصفحات الأولى في كبرى الصحف في سبتمبر الأسود ذلك، تسمى "مادونا بن طلحة"، وتظهر في الصورة سيدة جزائرية ثكلى تنتظر خارج مستشفى زميرلي في منطقة الحراش. تلك الصورة التي التقطها حسين زاورار الذي كان حينها مراسلاً لوكالة الأنباء الفرنسية، أصبحت رمزاً للمذبحة، وفازت بجائزة الصورة الصحافية العالمية في عام 1997. وأدت هذه الصورة في ظل المناخ السياسي القائم ومجموعة من الشكوك التي حامت حول المجزرة، إلى مزيد من الضغوط على الحكومة الجزائرية بشأن القبول بإيفاد لجنة تحقيق دولية في مجزرة بن طلحة وسلسلة من المجازر البشعة التي حدثت في مناطق حد الشكالة وتيسمسيلت والرمكة وغليزان غرب الجزائر، والرايس وبني مسوس في العاصمة، ومجازر أخرى. وأصدر حينها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان "بياناً إنسانياً" تطرق فيه للوضع في الجزائر، فيما طالبت أطراف فرنسية وألمانية وأميركية بتحري الوضع في الجزائر وتعيين مفوض أوروبي إلى الجزائر.
ليست الأطراف الأجنبية فقط من طرحت شكوكاً حول ظروف المجزرة وملابساتها والأطراف التي تقف خلفها، على خلفية عدة مؤشرات، أبرزها أن المجزرة بدأت عند الحادية عشرة ليلاً حتى الرابعة فجراً، من دون أن تتدخل قوات الأمن والجيش، على الرغم من وجود مراكز قريبة للجيش، بينما عزت السلطات تأخّر التدخل إلى محاذير أمنية خوفاً من الوقوع في فخ الاستدراج أو تلغيم المنطقة من قبل المسلحين. لكن أطرافاً محلية سياسية ومدنية ذهبت إلى تكذيب الرواية الرسمية، التي تلصق تنفيذ المجزرة بـ"الجماعة الإسلامية المسلحة"، التي تبنّت العملية عبر بيان لها وهددت بالمزيد. فنصرالله يوس، وهو واحد من سكان الحي وعاش بنفسه تلك الليلة، أصدر لاحقاً كتاباً في فرنسا بعنوان "من قتل في بن طلحة... وقائع مجزرة معلنة"، سرد فيه شهادة تتجه إلى طرح وجهة نظر عن تلاعب استخباراتي بالمجموعات الإرهابية عبر اختراقها وإداراتها. وعلى الرغم من أن نصرالله يوس لم يقدّم ما يكفي من الدلائل على وجهة نظره، إلا أنه تلقى دعماً في هذا السياق بعد نشر ضباط فارين من الجيش الجزائري، بينهم حبيب سويدية ومحمد سمراوي، شهاداتهم. لكن السلطات الجزائرية عملت على أكثر من صعيد منذ عام 1997، لدحض هذه الطروحات التي كانت تتعلق بـ"من يقتل من في الجزائر"؟، وتستند إلى شهادات متواترة لإرهابيين سلّموا أنفسهم أو ألقي عليهم القبض لاحقاً، بشأن مشاركتهم في المجزرة وتنفيذها.
في هذا الحي، أقام رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة، البروفيسور، مصطفى خياطي، مركزاً لمساعدة الأطفال ضحايا الإرهاب على تجاوز صدمتهم النفسية واستعادة الحياة الطبيعية. ففي بن طلحة كل بيت كان فيه مأتم أو أكثر بعد تلك الليلة المشؤومة، ويحاول سكان الحي أن يتجاوزوا عبء الذاكرة المدجج بالدم والألم. لكن ثمة ما يشدهم إلى المجزرة، تلك المقبرة التي ابتلعت في يوم واحد مئات الضحايا، مقبرة سيدي رزين التي ما زالت تخبئ تحت ترابها الموتى وأسرارهم.