ذلك أن خطاب كيري، أيضًا، هو نتاج محاولات أميركية فاشلة لإيجاد اتفاق سلام بين الجانبين، أجرى خلالها وزير الخارجية الأميركية محادثات مطولة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، فضلًا عن كبار المسؤولين من الجانبين.
لكن وجه الخلاف بين خطاب كلينتون عام ألفين، وخطاب كيري عام 2016، هو أن وجهة نظر الإدارة الأميركية في الخطاب الأول حمّلت الجانب الفلسطيني مسؤولية فشل المفاوضات. فيما يؤكّد خطاب كيري، بصريح العبارة، أن سياسة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية تسير عكس اتّجاه حل الدولتين الذي تبنّته الإدارات الأميركية المتعاقبة في العقود الثلاثة الماضية، وهي تقضي على أي أمل بالتوصل لاتفاق سلام في المستقبل، وتتعارض مع السياسة الأميركية المعتمدة منذ أكثر من خمسين عامًا.
يُضاف إلى ذلك، أن حدة ردة الفعل الإسرائيلية، واعتبار عدم استخدام "الفيتو" الأميركي في مجلس الأمن للقرار 2334 "طعنة في الظهر"، وذهاب نتنياهو إلى حد اتهام الرئيس الأميركي باراك أوباما وكيري بـ"التآمر على إسرائيل"، يشيران إلى أن هوة الخلافات بين تل أبيب وواشنطن اتسعت كثيرًا، وبلغت ذروة لم تصلها منذ إقامة دولة الاحتلال في فلسطين.
وكما عبر كيري في خطابه، فإن اختلاف وجهتي نظر الولايات المتحدة وإسرائيل إزاء عملية السلام في الشرق الأوسط لم يعد مقتصرًا على التعارض في الرؤية والمبادئ فحسب، بل يمكن القول إن السياسات الإسرائيلية باتت تتعارض مع المصالح الأميركية في المنطقة والعالم.
بهذا المعنى ينطوي خطاب كيري على رسائل داخلية أميركية، وتحذير واضح لإدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، من الانسياق وراء رغبة اليمين الإسرائيلي المتطرف، بزعامة نتنياهو، بالقضاء على حل الدولتين، وضم كامل الضفة الغربية للكيان الإسرائيلي.
فالموقف الأميركي الرافض للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، يبقى سياسة ثابتة تبنتها الإدارات الجمهورية والديمقراطية منذ أكثر من خمسين عامًا، وانقلاب الإدارة الأميركية الجديدة على هذه الثابتة في السياسة الخارجية سيخلّ بتحالفات واشنطن مع العالم العربي والإسلامي.
يدرك كيري أن مواقف ترامب، التي سبقت وتلت صدور قرار تجميد الاستيطان عن مجلس الأمن، وتماهيه المطلق مع موقف نتنياهو، تشير إلى أن إدارته ستنقلب على الكثير من ثوابت السياسة الخارجية الأميركية، وتحديدًا إزاء عملية السلام في الشرق الأوسط.
ومن علامات ذلك، تعيين دايفيد فريدمان، اليهودي المتشدد، المؤيد لسياسة الاستيطان، والمعارض لحل الدولتين، سفيرًا للولايات المتحدة لدى الدولة العبرية، وإعلان ترامب، مرارًا، عزمه على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، بعد انتقاله إلى البيت الأبيض.
وتنقل صحيفة "نيويورك تايمز" عن مساعدين لكيري أنه كان يعتزم إلقاء الخطاب نفسه قبل نحو عامين، إلا أن الرئيس أوباما أثناه عن ذلك، تحسّبًا لردة فعل نتنياهو.
وتشير إلى أن توقيت الإعلان عن رؤية كيري أملته الاتهامات الإسرائيلية غير المسبوقة التي وجهتها حكومة نتنياهو لإدارة أوباما وللولايات المتحدة، وضبابية توجهات إدارة ترامب إزاء عملية السلام، وإعلان نواياها إدخال تغييرات جوهرية على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. بما في ذلك إلغاء الاتفاق النووي الإيراني الذي يعتبره كيري الإنجاز الأبرز خلال أربع سنوات من العمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية الأميركية. في مقابل فشل جهوده الدبلوماسية الأخرى، وخصوصًا في ملفي السلام وسورية.
ولعلّ توقيت الخطاب، الذي يأتي قبيل انعقاد مؤتمر باريس المقرر لبحث أفق السلام في الشرق الأوسط، كان السبب وراء حالة الهلع الإسرائيلية، ورد الفعل الهستيري لنتنياهو ووزراء حكومته، خصوصًا أن الخطاب، المكتوب قبل عامين، يحمل رؤية أميركية مستقبلية لأفق السلام في الشرق الأوسط، وثوابت السياسة الأميركية التي تقوم على أساس قيام دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وهو ما يعني أن الموقف الأميركي الأخير في مجلس الأمن قد يتكرر في مؤتمر باريس، إذ من المرجح أن يشكل ما طرحه خطاب كيري أبرز عناوين النقاش.
وأشار نتنياهو، في رد فعله على خطاب وزير الخارجية الأميركية، إلى احتمال تبنّي مؤتمر باريس ما جاء في خطاب كيري وتوصياته، التي لم يستبعد أن تتحول أيضًا إلى قرارات تصدر عن مجلس الأمن الدولي.