منذ أن بدأت بوادر التغيير في سياسات أميركا إزاء باكستان، وتحديداً في الفترة الأخيرة، أضحت الحكومة الباكستانية تفكر في بدائل عن تركيز علاقاتها بالحليف الأميركي الاستراتيجي لها منذ عقود. وأوحت زيارات المسؤولين الباكستانيين المتكررة إلى طهران والتدريبات العسكرية مع الروس، وآخرها في سبتمبر/أيلول الماضي، أن إسلام آباد تسعى للبحث عن شركاء جدد. وكان التركيز الأساسي على العلاقات مع الصين والشراكة الاستراتيجية معها، وذلك مع بعض التحسن في العلاقات مع الروس.
وعندما اتهم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في تغريدة، إسلام آباد بالنفاق وإيواء المسلحين الذين تلاحقهم القوات الأميركية في أفغانستان، ثم أعلنت واشنطن توقف المساعدات العسكرية إلى باكستان، دانت إسلام آباد السياسة الأميركية. وكانت الولايات المتحدة، الخميس الماضي، أعلنت تعليق المساعدة الأمنية إلى إسلام آباد بما يصل إلى مبلغ ملياري دولار، بحسب مسؤول أميركي، مبدية استياءها حيال ما تعتبره تساهلاً من جانب السلطات الباكستانية على صعيد مكافحة الإرهاب. وكتب ترامب في تغريدة إن "الولايات المتحدة وبحماقة أعطت باكستان أكثر من 33 مليار دولار من المساعدات في السنوات الـ15 الأخيرة"، مضيفاً "إنهم يقدمون ملاذاً آمناً للإرهابيين الذين نتعقبهم في أفغانستان. انتهى الأمر".
وأوحت تصريحات المسؤولين الباكستانيين أن إسلام آباد لن تعتمد على واشنطن. وأشار وزيرا الدفاع خرم دستكير، والخارجية خواجة آصف، إلى أن باكستان ستبحث عن شركاء آخرين في المنطقة، ولن تعتمد أبداً على أميركا. كما أشار وزير الخارجية إلى أن الشراكة والعلاقات مع بكين أحد أبرز الأسباب التي تقف خلف تدهور العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد. وقال السناتور مشاهد حسين سيد "في حال عمدت الولايات المتحدة إلى ترهيبنا وتحميلنا المسؤولية وتهديدنا، عندها لدينا خيارات أخرى"، ملمحاً بذلك إلى الصين. في المقابل، كانت الصين أول من انتقد السياسة الأميركية واتهامها لباكستان بإيواء المسلحين. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، كينغ شوانغ، إن باكستان بذلت جهوداً كبيرة في مكافحة الإرهاب، ودفعت في سبيل ذلك أثماناً باهظة. وأعلن أن بكين تثمن جهود إسلام آباد، وتعمل معها لمكافحة التنظيمات الإرهابية وإحلال السلام في المنطقة، مشدداً على ضرورة وجود شراكة استراتيجية بين إسلام آباد وبكين، منوهاً إلى رغبة بلاده في تعميق العلاقات مع باكستان في كافة المجالات.
ولم يكن السياسيون في باكستان وحدهم الذين ثمنوا موقف الصين وافتخروا به، بل حتى التظاهرات، التي خرجت في مختلف المدن للتنديد بالموقف الأميركي، طالبت بتعزيز الشراكة مع بكين، لا سيما أن لها مشاريع عملاقة في باكستان. ويبدو أن إسلام آباد وبكين تعملان لتلبية ما تستدعيه التطورات الأخيرة، وأن الصين على أهبة الاستعداد لجني ثمار الخلافات بين باكستان وأميركا، التي نجم عنها التحول في سياسات إسلام آباد. وكان قرار بكين إنشاء قاعدة عسكرية محط اهتمام باكستان والمنطقة، وهو ربما يكون بداية صفحة جديدة لسياسات الصين في المنطقة، خصوصاً مع باكستان، رغم أن الطرفين اتفقا على بناء القاعدة قبل التصعيد في العلاقات بين إسلام آباد وواشنطن.
وتقول مصادر صينية وباكستانية إن القاعدة البحرية ستكون في ميناء غوادر الباكستاني الواقع في إقليم بلوشستان، وستكون تحت الإدارة الصينية ضمن مشروع الممر التجاري الصيني الباكستاني الذي تفوق الاستثمارات الصينية فيه 50 مليار دولار، مبررة ذلك بأنه جاء لتأمين المشاريع الاقتصادية والتجارية الصينية في المنطقة. ورغم أن القاعدة البحرية، التي تعتزم الصين إنشاءها الآن، كان تم الاتفاق عليها في عهد الرئيس الباكستاني الأسبق، برويز مشرف، إلا أن الحديث بشأنها عاد إلى الواجهة أخيراً. كما أنه سيتم إنشاء القاعدة البحرية قرب ميناء تشاربهار الإيراني الذي تم تصميمه بمساعدة هندية، بهدف إفشال ميناء غوادر، الذي تعتزم الصين الوصول عبره إلى دول آسيا الوسطى، فيما تنافسه الهند وإيران من خلال ميناء تشاربهار. رغم كل ذلك، فإن السياسيين الباكستانيين يعتقدون أن الصين لن تحل محل أميركا بما يتعلق باحتياجات باكستان العسكرية والاستخباراتية، خصوصاً وأنها تواجه الحركات الانفصالية في بلوشستان، حيث معظم المشاريع الصينية، إضافة إلى أعمال العنف التي تنفذها حركة "طالبان" باكستان وجماعات مسلحة أخرى، وتزايد المخاوف من تعاظم نفوذ تنظيم "داعش". يشار إلى أن علاقات باكستان وأميركا عميقة، خصوصاً في المجالين العسكري والاستخباراتي. لكن بعد المواقف الأميركية الأخيرة حيال باكستان، فإن الاهتمام بالعلاقات مع الصين والشراكة معها هو الخيار الأفضل أمام باكستان وسط الخيارات الموجودة، لكنها لن تكون بديلاً عن الشراكة مع أميركا.
وفي حين أن الصين تريد بناء قاعدة بحرية في غوادر لحماية مشاريعها، فإنها تسعى لعدم اقتصار هذه المشاريع على باكستان، وهو أمر سيساهم في إحلال السلام والأمن في المنطقة. لذا قررت بكين، ورضيت إسلام آباد، خلال اجتماع وزراء خارجية الصين وباكستان وأفغانستان، في بكين في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ضم أفغانستان إلى الممر الاقتصادي الباكستاني الصيني. وعند الإعلان عن عزم الصين ضم أفغانستان إلى المشروع، قال وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إن الهدف من ذلك هو أن يعود الممر الاقتصادي بفوائد على كل المنطقة، وأن يكون حافزاً للتنمية الشاملة، مشدداً، في الوقت ذاته، على أن أفغانستان تحتاج إلى تطوير اقتصادها، لذا تحتاج للانضمام إلى المشروع العملاق.
وكما واجهت السياسات الأميركية الكثير من الأعداء والمتنافسين في المنطقة، كإيران وروسيا، وأصدقاء لم يخلصوا معها، كباكستان وفق رؤية واشنطن، فإن الصين تواجه منافسين وأعداء، فالهند لن ترضى بأية حال بالدور الريادي للصين في المنطقة، إذ هي ترى نفسها منافسة لها. كما أن شراكة الهند مع أميركا ومشاريعها مع إيران، إضافة إلى عدائها لباكستان، تحثها على الوقوف بوجه سياسات الصين في المنطقة. كما أن أميركا التي ترى أنها الأحق بترسيم خطوط سياسات المنطقة، لن ترضى بالدور الصيني، لا سيما إذا كانت بكين تسعى لإخراج إسلام آباد من المأزق، فيما تعكف واشنطن على درس خيارات جديدة إذا ما أصرت باكستان على موقفها، وهي المتهمة من قبلها بإيواء المسلحين. ويبدو من سياسات واشنطن الأخيرة أنها لن تقف عند الحد الحالي بما يتعلق بعلاقاتها مع باكستان، وذلك مع إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أنها تدرس خيارات أخرى إذا واصلت باكستان سياساتها الحالية. من هنا فإن أي تأييد لباكستان أمرٌ غير مقبول لدى واشنطن، وستقف بوجهه، خصوصاً إذا كان من الصين.