يتوجه 30 مليون بريطاني، اليوم، نحو صناديق الاقتراع في 40 ألف مركز، لانتخاب برلمان جديد، يمثله في السلطة التنفيذية حكومة جديدة، تقود البلاد في مفاوضات "بريكست" شاقة لإتمام إجراءات الطلاق مع الاتحاد الأوروبي، وترسم ملامح بريطانيا جديدة مُثقلة بتحديات سياسية وأمنية واقتصادية غير مسبوقة. ويتنافس في انتخابات 2017 البريطانية، حزب المحافظين، بزعامة تيريزا ماي، وحزب العمال الذي عاد الى يساريته، بزعامة جيرمي كوربين. وعلى هامشهما، تشارك في المنافسة على مقاعد البرلمان الـ650 أحزاب "الليبرالي الديمقراطي"، و"الاستقلال" اليميني، و"القومي الاسكتلندي"، وأحزاب أخرى في إقليمي ويلز وإيرلندا الشمالية.
انتخابات استثنائية
وتجري انتخابات العام 2017 بشكل استثنائي، بعد عامين من الانتخابات التي جرت في 2015، ذلك أن مرسوم "البرلمانات ثابتة المدة" لعام 2011، ينص على أن الانتخابات البرلمانية البريطانية تجري يوم الخميس الأول من شهر مايو/أيار، كل خمس سنوات. وكانت ماي قررت، الشهر الماضي، حل البرلمان تمهيداً لإجراء الانتخابات، سعياً لتعزيز الأغلبية التي تتمتع بها قبيل مفاوضات "بريكست" مع الاتحاد الأوروبي. والمعلوم أن تيريزا ماي تولت منصب رئاسة الوزراء، وزعامة حزب المحافظين، بعد استقالة ديفيد كاميرون إثر هزيمته في استفتاء "بريكست"، الذي جرى في يونيو/حزيران 2016، وصوت فيه 52 في المائة من البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.
وتنقسم المملكة المتحدة إلى 650 دائرة انتخابية، تُمثّل كل واحدة منها بعضو برلماني واحد في مجلس العموم. وتوزّع هذه الدوائر على الأقاليم الأربعة، المكونة للمملكة المتحدة، كالتالي: 533 دائرة انتخابية في إنكلترا، و59 في إسكتلندا، و40 في ويلز، و18 في إيرلندا الشمالية. ويختار المواطنون، عبر اقتراع عام، من بين مرشحي الأحزاب في دائرتهم، على أن يفوز المرشح الذي يحصل على أعلى الأصوات بتمثيل الدائرة في مجلس العموم. وتكلف الملكة الحزب الفائز بالأغلبية المطلقة (50 في المائة + 1) من مقاعد البرلمان، وهي 326 مقعداً، بتشكيل الحكومة، ويصبح زعيم الحزب هو رئيس وزراء المملكة المتحدة. أما إذا فشلت كل الأحزاب في الحصول على أغلبية المقاعد، وهي الحالة التي يُطلق عليها "البرلمان المعلق"، كما حصل في انتخابات 2010، فإن الأعراف الدستورية تقضي بتشكيل حكومة ائتلافية، بين الأحزاب التي يمكنها توفير الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان، كما كان الحال في حكومة 2010، التي تحالف فيها المحافظون (306 مقاعد) مع الليبراليين الديمقراطيين (57 مقعداً)، وشكلا الحكومة التي حازت الأغلبية في مجلس العموم، وهي 363 مقعداً.
"بريكست" في صلب الانتخابات
يشكل مستقبل العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، محور الحملات الانتخابية بين الأحزاب السياسية الرئيسية. وبينما تؤكد الزعيمة المحافظة، تيريزا ماي، أنها مستعدة للخروج من مفاوضات "بريكست" من دون اتفاق ما لم تلبّ أوروبا احتياجات بريطانيا، يُصر الزعيم العمالي، جيرمي كوربين على ضرورة وصول المفاوضات مع الجانب الأوروبي إلى حل. وخلال مناظرة تلفزيونية، جرت بين ماي وكوربين في 29 مايو/أيار الماضي، وعدت ماي بأن تكون "حازمة قدر الإمكان" خلال المفاوضات التي ستبدأ بعد أيام من الانتخابات التشريعية المقررة في الثامن من يونيو/حزيران الحالي، مفضلة ألا يكون هناك اتفاق بدلاً من القبول بإبرام اتفاق "سيئ". وقالت ماي إنه لا تأجيل لموعد بدء مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي المقررة في 19 يونيو، وحثت الناخبين على منحها تفويضاً قوياً في الانتخابات العامة. كما يتعهد حزب المحافظين بالخروج من السوق الأوربية الموحدة والاتحاد الجمركي الأوروبي، مع السعي نحو شراكة خاصة وعميقة مع الاتحاد الأوروبي، تتضمن اتفاقية شاملة في مجالي التجارة الحرة والجمارك. ويتعهد المحافظون بإجراء تصويت برلماني على الاتفاق النهائي لمفاوضات "بريكست".
وفي المقابل، يقول كوربين إنه سيعمل "بشكل ما" على أن يكون هناك اتفاق مع الاتحاد الأوروبي. وفي ما يتعلق بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يقترح حزب العمال نهجاً بديلاً للخروج الصعب الذي تعتمده رئيسة الوزراء المحافظة، وهو إدامة الوصول إلى السوق الداخلية وضمان حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي. وبالإضافة إلى ذلك، ضمان عدم الإقدام على أي تنازل عن حقوق العمال، وحماية البيئة. وجاء في البرنامج الانتخابي لحزب العمال تعهدات بقبول نتيجة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، والعمل على بناء علاقة وثيقة معه، أولوياتها فرص العمل وحقوق العاملين وضمان حقوق المواطنين الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة، والعمل على تأمين حقوق المواطنين البريطانيين المقيمين في دول أوروبية أخرى، فضلاً عن منح مجلس العموم البريطاني دوراً خلال مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
هموم الأمن والمعيشة
ألقت موجة العمليات الإرهابية التي ضربت المدن البريطانية منذ مارس/آذار الماضي، بظلال ثقيلة على انتخابات اليوم، بل غيرت الأولويات، إذ تقدم الأمن ومواجهة الإرهاب المشهد. وحل فشل تيريزا ماي في التصدي للإرهاب في صلب الحملات الانتخابية لخصوم وزيرة الداخلية السابقة، ورئيسة الوزراء الحالية. أما حزب المحافظين فقرر خوض الانتخابات تحت شعار "قيادة قوية ومستقرة من أجل المصلحة الوطنية"، متعهداً في برنامجه الانتخابي بزيادة سقف تكاليف الرعاية الاجتماعية، وزيادة الرسوم المفروضة على الشركات والمؤسسات التي تخدم العاملين المهاجرين من الدول غير الأعضاء في مجموعة دول الاتحاد الأوروبي، وتخفيض الضرائب على المؤسسات التجارية إلى نسبة 17 في المائة بحلول العام 2020، وزيادة الحد الأدنى للأجور، وضخ 4 مليارات جنيه إسترليني إضافية لدعم المدارس بحلول العام 2022. كما يتعهد بزيادة تدريجية في الإنفاق الحقيقي في مجال الصحة، وتخفيض معدل الهجرة، والعمل على حصر وضبط أعداد الطلاب الأجانب في إحصائيات الهجرة، وخفض أسعار الطاقة إلى الحد الأدنى في أوروبا، في حالات الاستخدام المنزلي والتجاري معاً، وتطوير صناعة النفط والغاز الصخريين في بريطانيا، وإصدار تشريعات منظمة لذلك من شأنها حماية البيئة. كما تعهد الحزب، في برنامجه الانتخابي، بإنفاق نسبة 2 في المائة، على الأقل، من الميزانية العامة على الدفاع، وزيادة ميزانية الدفاع بنسبة 0.5 في المائة، على الأقل، فوق معدل التضخم في كل عام، وعدم إجراء استفتاء بشأن استقلال إسكتلندا قبل إنهاء عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على ألا يتم ذلك الاستفتاء، من دون اتفاق عام عليه، والاعتراف بوضعية إيرلندا الشمالية الفردية عند خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والسعي لضمان حماية مصالحها.
أما حزب العمال، فقد أقر برنامجاً، وصفه المراقبون بـ"برنامج التأميم"، إذ تعهد بإعادة تأميم المرافق العامة، عبر إعادة هيئة السكك الحديدية وشبكات إمدادات الطاقة والمياه وهيئة البريد الملكية البريطانية إلى الملكية العامة. كما تعهد بزيادة أجور 5.7 ملايين عامل يكسبون أقل من الحد الأدنى للأجور في الساعة إلى 10 جنيهات في الساعة بحلول العام 2020، وإعادة منحة الإعاشة لطلاب الجامعات، وإلغاء الرسوم الجامعية، وتعزيز عدد العاملين في القطاع الصحي، كماً ونوعاً، وتقليل عدد قوائم الانتظار بمقدار مليون شخص، وضمان توفير المعالجة للمرضى خلال 18 أسبوعاً، بالإضافة إلى حماية ميزانية الصحة العقلية من القطوعات. كما تعهد بضمان حصول كل الأطفال، في المدارس الثانوية، على خدمات الاستشارات النفسية، وبناء مليون منزل إضافي، نصفها، على الأقل، في قطاع الإسكان الاجتماعي، وضمان تمويل مشاريع المساعدة في شراء المنازل حتى العام 2027. ويتوافق العمال مع المحافظين في رفض إجراء استفتاء ثانٍ على استقلال إسكتلندا. كما يلتزم العمال بمؤشر حلف شمال الأطلسي، الذي نصح بإنفاق 2 في المائة، على الأقل، من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. ويرفض الحزب تحديد سقف لأعداد المهاجرين، مع الإدارة المعقولة لشؤون الهجرة، وعدم تضمين الطلاب الأجانب في إحصائيات المهاجرين.
أما الحزب الليبرالي الديمقراطي فقد تعهد بعرض اتفاق "بريكست" النهائي على الاستفتاء الشعبي، كما تعهد بضمان المملكة المتحدة لحقوق المواطنين الأوروبيين المقيمين على أراضيها وضمان حقوق المواطنين البريطانيين المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي، والحفاظ على عضوية المملكة المتحدة في السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي الأوروبي. وتعهد بالسعي إلى إحباط محاولات إلغاء قانون حقوق الإنسان، أو الانسحاب من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، وتأمين ممرات قانونية وآمنة للاجئين إلى بريطانيا، وتوفير ملاذ لـ50 ألف لاجئ سوري خلال خمس سنوات.
لا أغلبية لأي حزب
يرجح المراقبون أن تفضي نتائج التصويت عن "برلمان معلّق"، يحصل فيه "المحافظون" على العدد الأكبر من الأصوات، من دون الحصول على غالبية الـ51 في المائة من مقاعد مجلس العموم، وهي النسبة المطلوبة للحصول على الأغلبية المطلقة، وبالتالي تكليف الحزب بتشكيل الحكومة، وهذا يعني أن على "المحافظين" اختيار شريك آخر لتشكيل ائتلاف حكومي، وعلى الأرجح أن تكون استراتيجية "المحافظين" المفضّلة عبر اختيار الحزب أو الأحزاب الأقرب لسياساته. ومن المستبعد جداً أن يلجأ المحافظون للتحالف مع "العمال"، لأن الحزبين على خصومة سياسية لا تسمح لهما بالتعايش في حكومة ائتلافية تمنح أياً منهما الحكم بشكل فعال. على الجانب الآخر من المعادلة، لا يُستبعد احتمال فوز حزب "العمال" بمقاعد أكثر مما كان بحوزته في البرلمان السابق، ولكنها غير كافية لتشكيل الحكومة إلا بالتحالف مع شريك آخر، وهنا تبدو خيارات جيرمي كوربين، محصورة بين الحزب الليبرالي الديمقراطي، والحزب "الوطني الاسكتلندي".
لا ثقة باستطلاعات الرأي
ومع أن استطلاعات الرأي بدأت السباق الانتخابي بترجيح فوز حزب المحافظين على منافسه العمال بفارق كبير، إلا أنها سرعان ما عادت لتقليص الفارق بين الحزبين، بل وترجيح بعضها فوز العمال. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من المراقبين والناخبين في بريطانيا فقدوا ثقتهم باستطلاعات الرأي، ودقة نتائجها، بعد فشلها في تقدير نتائج ثلاثة استحقاقات عامة جرت في بريطانيا منذ العام 2014. فقد فشلت مؤسسات استطلاعات الرأي خلال "استفتاء إسكتلندا 2014"، وهو الاستفتاء الشعبي الذي أجرته الحكومة الإسكتلندية، في 18 سبتمبر/أيلول 2014، لتحديد مستقبل عضوية إقليم إسكتلندا ضمن المملكة المتحدة. فبينما أظهر استطلاع للرأي، نشر قبل 11 يوماً من موعد إجراء الاستفتاء، تفوق المؤيدين لاستقلال إسكتلندا بنسبة 51 في المائة، مقابل 49 في المائة لفريق المعارضين، أظهرت نتائج آخر استطلاعين للرأي أجرتهما مؤسستا "آي سي إم" و"سارفيشن"، لحساب صحيفتي "سكوتسمان" و"ديلي ميل" الإسكتلندية على التوالي، أن نسبة المؤيدين لبقاء إسكتلندا ضمن المملكة المتحدة ارتفعت إلى 52 في المائة مقابل 48 في المائة يؤيدون الاستقلال. وجاءت النتيجة النهائية والرسمية مُخالفة لنتائج الاستطلاعين، إذ رفض الناخبون استقلال إسكتلندا عن المملكة المتحدة بنسبة 55.42 في المائة.
أما الاستحقاق البريطاني الثاني، الذي خالفت نتيجته النهائية كل استطلاعات الرأي، فتمثل بفوز حزب المحافظين في الانتخابات العامة التي جرت في مايو/أيار 2015. وكان آخر استطلاع، أجرته مؤسسة "يوغوف" لاستطلاعات الرأي، لصالح صحيفة "ذا صن"، كشف عن تقارب بين حزب المحافظين وحزب العمال، وحصولهما على تأييد نسبته 33 في المائة. وأظهر استطلاع، أجرته مؤسسة "سيرفيشن" لحساب صحيفة "ديلي ميرور"، تقدم حزب العمال على حزب المحافظين بفارق نقطة مئوية واحدة. ومنح الاستطلاع العمال 34 في المائة من الأصوات، بينما بقي تأييد المحافظين عند 33 في المائة من الأصوات. كما أظهر استطلاع اللحظات الأخيرة، الذي أجرته مؤسسة "بوبيولوس"، أن حزب المحافظين متعادل مع حزب العمال المعارض، بنسبة 34 في المائة من مجموع الأصوات لكل منهما. وجاءت النتيجة النهائية مخالفة تماماً، إذ فاز حزب المحافظين بنتيجة مريحة، بحصوله على 331 مقعداً من مجموع مقاعد مجلس العموم الـ650، بفارق 99 مقعداً عن حزب العمال المعارض. أما الفشل الثالث، الذي سجلته استطلاعات الرأي البريطانية، فكان قبيل ما عرف بـ"استفتاء بريكست" بشأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وبينما أظهرت آخر استطلاعات الرأي، التي سبقت عملية الاقتراع في 23 يونيو/حزيران الماضي، تقدم معسكر المؤيدين للبقاء في الاتحاد بـ55 في المائة من آراء المشاركين في الاستطلاعات، مقابل 45 في المائة حصل عليها أتباع "الخروج"، جاءت النتائج النهائية خلاف ذلك تماماً، إذ صوت 52 في المائة من الناخبين لصالح الخروج، في حين صوت 48 في المائة لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.