شهدت ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي قبل خمس سنوات حالة من الانقسام على خلفية الصراعات المسلحة بين الأطراف الليبية على أُسس قبلية ومناطقية وسياسية. ومع عدم تمكن أي من الأطراف من حسم الموقف لصالحه، لجأ أغلبها لقبول دعم قوى دولية تسعى لتحقيق أهداف سياسية من وراء التدخل في ليبيا.
ولا يخفى أن المجلس الرئاسي الليبي، الذي تمكن من دخول طرابلس في شهر مارس/آذار الماضي قد تحول بعد تأثره بالصراعات الدولية والمحلية إلى طرف من أطراف الصراع، بدلاً من أن يحقق الوفاق الذي تأسس المجلس من أجله بموجب "اتفاق الصخيرات" الموقع بين الأطراف بليبيا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وذلك مع استمرار رفض البرلمان وجناحه العسكري منح الثقة لحكومة المجلس الرئاسي وامتناعه عن الموافقة على الاتفاق السياسي.
وكان الاتفاق السياسي في ليبيا والذي فرضته القوى الدولية قد تأثر بمسألة تقاسم الحصص من ثروات النفط والغاز الليبية، ليتجلى الصراع الدولي في ليبيا بشكل واضح بين جانبين إثنين، إيطاليا وبريطانيا بدعم أميركي من جهة، وفرنسا بدعم ألماني من جهة ثانية.
إذ حصلت إيطاليا من خلال شركة "إيني" على عقود ضخمة عام 2007 لاستثمار الغاز بمنطقة "مليتا" غرب البلاد، بينما فازت فرنسا عام 2010 من خلال شركة "توتال"، بعقد لاستثمار الغاز بحوض "نالوت" غرب البلاد، والقريب من "مليتا". قبل أن تعود ليبيا وتلغي العقد مع الشركة الفرنسية بعد جدل قانوني.
ويبدو أن إيطاليا وحلفاءها يحولون دون رجوع فرنسا إلى منطقة "نالوت"، التي تتحدث تقارير أنها تحوي على مخزون من الغاز يكفي أوروبا لمدة ثلاثين عاماً.
ولا يخفى أن الصراع بين هذه الدول في ليبيا مرتبط بالصراع على كامل المنطقة الأفريقية، حيث تعتقد بريطانيا والولايات المتحدة، أن حصول فرنسا على حوض "نالوت" سوف يعزز من سيطرتها وتأثيرها في منطقة الشمال الأفريقي والصحراء التي تمتلك فيها فرنسا نفوذاً كبيراً.
وعلى أساس هذا الصراع الدولي، تولد الدعم اللامحدود للمجلس الرئاسي من قبل بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا، بينما اتجهت فرنسا لدعم الجنرال خليفة حفتر، الخصم العسكري اللدود للمجلس في شرق ليبيا.
وكانت مصالح شركة "توتال" الفرنسية في الهلال النفطي، ورغبتها في استرجاع حوض "نالوت"، وراء تقديم فرنسا دعماً عسكرياً لحفتر. هذا الدعم الذي كان معلناً في معارك بنغازي، وجاء دعماً خفياً، عند استيلاء حفتر على منطقة الهلال النفطي قبل ثلاثة أسابيع.
ولا يعدو ما قامت به فرنسا أن يكون وضعاً للعراقيل أمام الاتفاق السياسي من خلال دعم حفتر، الذي تم استبعاده من المشهد كاملا في المادة الثامنة من الاتفاق السياسي. لكن الجنرال حفتر أصبح، بعد اكتساحه لمنطقة الهلال النفطي، رقماً صعباً في المعادلة الليبية وليس بوسع الاتفاق السياسي إقصاؤه.
وتسعى فرنسا في الوقت الذي تنشغل فيه الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية الأميركية لإرسال رسالة واضحة لخصومها، وفي المقدمة إيطاليا وبريطانيا، مفادها بأنه يتوجب إعادة النظر في الاتفاق السياسي، أو القبول بانجراف ليبيا إلى مواجهة عسكرية جديدة بين غرب البلاد وشرقها، بحيث ستكون حقول ومواني النفط ساحتها الجديدة.
وبعيداً عن مسرح الأحداث، تنفرد فرنسا بالجنوب الليبي الذي تعتبره إرثها التاريخي بليبيا، حيث لا تزال تمتلك صلات قوية ببعض الزعامات العسكرية المرتبطة بالنظام السابق أو الزعامات القبلية التي ترتبط بقبائل مثل "التبو" الممتدة إلى تشاد والنيجر، والتي تتمتع بعلاقة جيدة مع مجموعات متمردة في المنطقة كجماعة "العدل والمساواة" السودانية.
وكانت فرنسا منشغلة، بالتزامن مع المساعي الدولية لإنجاز الاتفاق السياسي في ليبيا، بترتيب أوراقها في الجنوب الليبي لضمان سيطرتها عليها من خلال قيادات عسكرية جلبت لها البيعة القبلية مثل محمد بن نائل، أحد القادة العسكريين الموالين للنظام السابق وقائد أقوى المجموعات القبلية المسلحة التي ترابط في الوقت الحالي حول قاعدة الجفرة وسط جنوب البلاد، وعلي كنه الذي عاد لتشكيل لواء "المغاوير"، المكون من عناصر قبلية لقبيلة الطوارق، وأحد أهم أذرع القذافي العسكرية السابقة في الجنوب الليبي.
وغير بعيد عن المشهد في الجنوب، انفردت وسائل إعلام فرنسية بتغطية أنباء الإفراج عن سيف القذافي مطلع يوليو/حزيران الماضي، من سجنه في الزنتان أقصى غرب البلاد، وهو الذي لا يزال مصيره مجهولاً حتى الآن، مع توارد أنباء عن إمكانية وصوله إلى جنوب ليبيا، حيث تسيطر القبائل والقيادات العسكرية المؤيدة للنظام السابق.
وبحسب توقعات مراقبين للشأن الليبي، فإن فرنسا ستعلب بورقة الجنوب الليبي إذا ما اتجهت الأمور بمنطقة الهلال النفطي وفي الشمال الليبي، عموماً، في غير مصالحها، مستفيدةً مما يشكله الجنوب من عمق ليبي حافظ على مر التاريخ على دوره في حسم الموقف أكثر من مرة، لاسيما مع الحالة التي وصل إليها المواطن الليبي لجهة فقده الثقة في كل هياكل وقيادات الدولة جراء استمرار الصراعات الداخلية، ما قد يجعل الجنوب الليبي والقذافي الإبن طرفاً حاسماً في الصراع الليبي.
ويرجح أن تستثمر فرنسا ورقة الجنوب الليبي لإنهاء الحرب بما يضمن مصالحها، ذلك أن الأطراف الدولية لن تقبل باستمرار الحرب بشكل يرفع احتمالية خروج الأمور عن السيطرة مما قد يخل بالتوازنات الدولية والإقليمية ويعرقل ضخ النفط، ذلك أن دولاً مثل إيطاليا وألمانيا لن تحتمل استمرار انقطاع النفط لوقت طويل. وبالتالي، ستتمكن فرنسا من الحصول على المكاسب بحيث ترغم الأطراف الدولية كبريطانيا والولايات المتحدةعلى القبول بشروطها.