من المفترض أن يصبح للبنان رئيس للجمهورية بعد عامين ونصف العام من الشغور الناتج عن تعطيل "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" لجلسات انتخاب الرئيس في البرلمان، تحت شعار "عون أو الفراغ". وبالفعل، نجح "حزب الله" في فرض مُرشحه لرئاسة الجمهورية النائب ميشال عون، بعد مفاضلة مريحة له بين "الجنرال" وبين حليفه الثاني رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية. سارت الأطراف السياسية بخيار عون الذي فاز في التصفيات الرئاسية من بين "الأقوياء الأربعة" (عون، سمير جعجع، فرنجية، أمين الجميل) الذين اتفقوا في مقر البطريركية المارونية في بكركي على أن يكون أحدهم رئيس الجمهورية العتيد، بوصفهم الأكثر تمثيلاً على الصعيد المسيحي. ثم من المفترض أن ينال عون العدد الأكبر من أصوات النواب، بعد أن حسم التنازل السياسي الذي قدمّه "المستقبل" وصوله إلى موقع الرئاسة، مقابل تكليف النائب سعد الحريري بتشكيل أولى حكومات العهد. وقد بشّر رئيس "حزب القوات اللبنانية" بعهد مريح سياسياً واقتصادياً للرئيس عون، المحسوب على فريق الثامن من آذار والذي كبّل نفسه بتحالفات ثنائية عقدها على حدة مع "حزب الله" وخصميه السياسيين "القوات" و"تيار المستقبل".
"عون كبّل نفسه"
لا تُبشر الملفات الكبيرة التي تنتظر العهد المُقبل لبتّها، بصورة أفضل عن صورة التعهدات المتعارضة التي قدّمها عون لمن حاورهم. التزم عون في هذه التعهدات الثنائية التي وقعها بمرجعية اتفاق الطائف، على الرغم من أنه عارض توقيعه، وحارب مندرجاته بسلاح الجيش اللبناني، قبل أن ينتقل إلى منفاه الفرنسي عام 1991. كما التزم أيضاً بوصول الحريري إلى رئاسة الحكومة على الرغم من عدم حماسة أيّ من حلفائه لهذا الخيار. وتبدو العلاقة مع سورية من أعقد ملفات العهد الجديد، فعون يُقرّ بأحقية مشاركة "حزب الله" في القتال هناك، مقابل التزامه مع "القوات اللبنانية" بـ"تحييد لبنان عن الأزمة السورية". وقد عبّر رئيس "حزب الكتائب" النائب أمين الجميل عن هذا التناقض بالإشارة إلى أن "تحالف حزب الله والقوات والمستقبل مع عون، وكلٌّ لأهدافه الخاصة، يؤكد حتمية وجود خطأ في حسابات أحد هذه الأطراف". وهو خطأ سينعكس على العهد المُقبل في تشكيل الحكومة، والاتفاق على قانون الانتخابات النيابية، وغيرها من الملفات.
"التشريعات المالية والنفطية والانتخابات"
ومع بداية انتظام عمل المؤسسات الدستورية في لبنان بوجود رئيس للجمهورية وتكليف الحريري بتشكيل الحكومة، ينتظر البرلمان المُمدد لنفسه، توافق الأطراف السياسية على قانون جديد للانتخابات لتعود السلطات الثلاث إلى ممارسة مهامها بشكل شرعي ودستوري، وذلك بعد فرض مجلس النواب (آخر انتخاب في عام 2009) تمديدين قسريين لولايته (عامي 2013 و2014)، من دون احترام الإرادة الشعبية أو المواعيد الدستورية لإجراء الاستحقاقات.
بالتالي، يُشكل إقرار قانون جديد للانتخابات أولى مهام الرئيس المُقبل، الذي يتبنّى مع فريقه السياسي خيار إقرار قانون مُختلط يجمع النظامين الأكثري والنسبي، بعد توافق القوى السياسية على حجم الدوائر الانتخابية وتوزيعها بما يحفظ التركيبة السياسية اللبنانية. ويأتي مشروع القانون الذي يلقى توافقاً قواتياً عونياً، بعد مرحلة شد وجذب تخللتها المفاضلة بين خيارين سيئين لمُختلف القوى السياسية، هما: إبقاء القانون الحالي المعروف بـ"قانون الستين" الذي يقوم على المبدأ الأكثري، وبين إقرار مشروع "القانون الأرثوذكسي" الذي ينص على انتخاب كل طائفة في لبنان نوابها، تحت عنوان: "حماية التمثيل المسيحي في الدولة".
ومع اقتراب موعد انتهاء ولاية البرلمان الحالي عام 2017، سيشكل إقرار القانون الجديد أولى أولويات الرئيس عون. وسيمنحه إقرار القانون المزيد من الشرعية والثقة بقدرته على حماية الدستور خلال ولايته، التي تمتد لست سنوات. ويُخشى أن يتأخر موعد تشكيل الحكومة لأكثر من 6 أشهر، فيتداخل هذا الموعد مع موعد إجراء الانتخابات النيابية، فضلاً عن أن أي تأخر في تشكيل الحكومة، من شأنه زيادة الرفض الشعبي عند الطائفة السنية إزاء رئاسة عون، والمزيد من النزيف من شعبية سعد الحريري لمصلحة الزعيم الصاعد في أوساط هذه الطائفة، أشرف ريفي، الرافض بشكل مطلق خيارات الحريري، خصوصاً ترشيحه عون للرئاسة.
ويواجه عون إشكالية مشاركة "حزب الله" المُصنف كتنظيم "إرهابي" من قبل الولايات المتحدة في نظام الحكم اللبناني، من خلال أعضاء كتلتي الحزب الوزارية والنيابية، الذين خضعوا لقانون العقوبات الأميركية وأُغلقت حساباتهم المالية في المصارف المحلية. وقد دفعت هذه العقوبات البرلمان اللبناني إلى الانعقاد مرتين خلال مرحلة الشغور الرئاسي لإقرار قوانين مالية تتعلق بالشفافية، على الرغم الخلاف الذي أدى لتعطيل إقرار تشريعات أخرى. وسيكون على الرئيس عون متابعة الخلاف المُستمر يبن "حزب الله" والمصارف اللبنانية التي أعلنت التزامها تطبيق العقوبات الأميركية ضد الحزب.
ويضاف إلى هذين الملفين الرئيسيين في عهد عون، ملف النفط الذي ينتظر إصدار رئيس الجمهورية المراسيم التشريعية تمهيداً لبدء عملية استخراج النفط والغاز من المياه الإقليمية خلال مدة زمنية، يُقدّرها خبراء بخمس سنوات أو أكثر قليلاً. وقد سبقت الدول الإقليمية، كقبرص واليونان وإسرائيل ومصر، لبنان في عملية استخراج النفط والغاز، وفي عقد اتفاقيات مُشتركة لنقل الثروات السائلة إلى أوروبا. وشهدت المرحلة السابقة لانتخاب عون مشاورات سياسية تناولت ملف النفط، وخلصت إلى تعيين أعضاء الهيئة المشرفة على قطاع النفط في لبنان، والإعلان عن مناقصات التنقيب في محاولة لتجاوز عقبة الوقت، وحتى يكون العهد الرئاسي جاهزاً للتعويض عن الوقت الضائع خلال الشغور. وتشير أقل التقديرات الاقتصادية إلى أن البدء بتجهيز البنى التحتية النفطية في لبنان سيضخ مئات ملايين الدولارات في الدورة الاقتصادية اللبنانية. وهي مبالغ ستخضع للمحاصصة السياسية والطائفية التي تقوم عليها البلاد.
"لبنان والمجتمع الدولي"
ومع تحول لبنان إلى منصة وقاعدة خلفية لمعارك "حزب الله" السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة، سيكون على الرئيس عون تحديد السياسة الخارجية للبنان المحكومة بسقف خطاب الحزب تجاه الدول الإقليمية وحتى الدولية. وقد أظهرت مرحلة الشغور الرئاسي هشاشة الموقف الرسمي اللبناني على الصعيدين العربي والدولي، مع تحول الوزراء اللبنانيين المُشاركين في اجتماعات الجامعة العربية إلى مُبررين أو مدافعين صريحين عن "حزب الله" وعن مشاركته في المعارك الإقليمية. ولم يقتصر هذا الدفاع وهذا التبرير على وزير الخارجية، رئيس "التيار الوطني الحر"، صهر عون، جبران باسيل، بل امتد إلى صفوف خصم الحزب السياسي: "تيار المُستقبل"، الذي رفض ممثله في الحكومة وزير الداخلية نهاد المشنوق، تصنيف "حزب الله" إرهابياً في اجتماع وزراء الداخلية العرب الذي عُقد في تونس في مارس/آذار الماضي. ويعاني خصوم "حزب الله" وحلفاؤه في لبنان من صعوبة في الموازنة بين "وقوف لبنان إلى جانب الإجماع العربي في مُختلف القضايا"، وبين مواقف الحزب التي نادراً ما تتلاقى مع هذا الإجماع.
ولن يخلو إقرار البيان الوزاري لأولى حكومات عهد عون من صراع بين الحزب وحلفائه، المصرين على تضمين البيان "حق لبنان في مقاومة إسرائيل (عبر حزب الله)"، و"ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة" التي تشرعن سلاح "حزب الله" من دون أي ضوابط لاستخدامه محلياً أو إقليمياً. وقد أثبتت جلسات الحوار حول "الاستراتيجية الدفاعية للبنان" عُقماً، حتى أن عدوان تموز/يوليو عام 2006 وقع خلال خوض الأحزاب السياسية اللبنانية لحوار حول سلاح حزب الله وكيفية مواجهة الخطر الإسرائيلي.
ولا تقلّ هشاشة الموقف اللبناني أمام المجتمع الدولي في ملف اللاجئين السوريين عن هشاشته تجاه "حزب الله"، وقد يمنح وصول عون موجة العنصرية السياسية ضد اللاجئين السوريين وحتى الفلسطينيين، مجالاً أوسع للتعبير عن رفض وجود اللاجئين في لبنان وتحميلهم كل المشاكل البنيوية، التي راكمها تخلّف النظام الخدماتي منذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى قبل لجوء السوريين إلى البلد. وسيعاني عون في محاولة إيجاد موقف لبناني رسمي موحد من قضية اللجوء لعرضه على المحافل الدولية، وقد عبّر مسؤولون أُمميون في مراحل متفاوتة عن استغرابهم لتفاوت الخطط الوزارية المُخصصة للتعامل مع اللاجئين بحسب الخلفية السياسية للوزراء المعنيين.
أمام هذه العناوين السياسية الكبيرة التي سيفتتح عون عهده بها، ستكون الملفات الحياتية للمواطنين من إدارة النفايات الصلبة وتحسين التغذية الكهربائية وسلامة الغذاء ومعالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية للمواطنين وغيرها، في آخر أولويات العهد الجديد. كما ستكون رهينة نجاح رئيس الحكومة في تشكيل السلطة التنفيذية التي ستشرف على حل هذه الملفات. ويخشى متابعون على حالة الحريات العامة في عهد عون، واستمرار البذور الأولى لقمع الناشطين التي بدأها الرئيس السابق ميشال سليمان (2008 ـ 2014)، مع محاكمة أحد الذين انتقدوه على مواقع التواصل الاجتماعي، مع العلم بأن عون يحمل كمّاً تاريخياً من العلاقة السيئة مع وسائل الإعلام والصحافيين عموماً، تجلّى في رفض "الجنرال" أي نقاش في المؤتمرات أو اللقاءات العامة وشتمهم والتعامل معهم بعدوانية استثنائية. من هنا، تسود خشية كبيرة في لبنان من أن يُكرّس العهد الجديد انتقال عاصمة عربية أُخرى إلى حضن الوصاية، مع تولي "حزب الله" وحلفائه مفاصل الحكم، وكأن الأمين العام للحزب حسن نصر الله، بات هو من يجلس على كرسي الرئاسة.