خريطة دمشق وريفها الجديدة: هندسة ديمغرافية إيرانية

01 سبتمبر 2016
فجّر النظام وحزب الله منازل المدنيين في وادي بردى(Getty)
+ الخط -
خلال السنوات الأولى للثورة السورية، كان التفسير الشائع لعمليات التهجير التي يقوم أو يتسبب بها النظام السوري لمئات آلاف الناس وصولاً إلى الملايين منهم في مراحل لاحقة، أنها تأتي في سياق رغبة النظام في كسر إرادة التحرر لدى الشعب السوري ومعاقبته على القيام بالثورة.

غير أن تواصل هذه العمليات، وتمظهرها بشكل فجّ في السنوات الأخيرة، من خلال شرط الترحيل الذي بدأ يظهر في بعض "الهدن" والمصالحات، فضلاً عن التدمير المتعمد من جانب النظام للكثير من المدن والبلدات التي تحتضن حراكاً معارضاً، حتى تلك الخالية من السكان، وإصراره على منع السكان المهجرين من العودة إلى ديارهم، حتى بعد سيطرته عليها، يقود إلى الجزم بأن النظام، ومن خلفه إيران، يحاول إعادة رسم الخريطة الديمغرافية في البلاد. خريطة جديدة على أساس طائفي أحياناً وسياسي أحياناً أخرى، إذ يتم حشر المسلحين المعارضين للنظام في مناطق بعينها، و"تنظيف" المدن الرئيسية التي يسيطر عليها النظام وأريافها من المعارضين، خصوصاً المسلحين منهم.

في هذا الإطار، تحظى مدينة دمشق وريفها باهتمام خاص لدى النظام، ومعه حزب الله الذي يهتم بتأمين منطقة القلمون وتلك الفاصلة بين دمشق والحدود اللبنانية، إضافة إلى اهتمامه مع إيران بمنطقة السيدة زينب وما حولها بحجة حماية مقام السيدة زينب هناك. وبهذه الذريعة، سيطر النظام والمليشيات التي تدعمها إيران على كثير من البلدات المجاورة للسيدة زينب منها: شبعا، والذيابية، وحجيرة، والسبينة التي كان يعيش فيها مئات آلاف المواطنين، إذ تم تهجيرهم، ولم يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم، بعد نحو ثلاث سنوات من استعادة مناطقهم من جانب قوات النظام والمليشيات بعدما خضعت لسيطرة فصائل المعارضة لبعض الوقت.

وتمتد هذه الذرائع المتعلقة بحماية المقامات إلى قلب مدينة دمشق حول الجامع الأموي، مثل مقام السيدة رقية في دمشق القديمة، وصولاً إلى داريا التي كانت إيران بنت فيها مطلع الألفية الثانية مقاماً كبيراً باسم السيدة سكينة، وبدأ التفكير الآن بإعادة تأهيله مع ترحيل أهالي داريا عن مدينتهم قبل أيام.

المعضمية وخان الشيح
بعد ترحيل أهالي داريا إلى إدلب ومناطق أخرى، اتجهت الأنظار مباشرة إلى البلدة المجاورة لها، وهي معضمية الشام، التي تخضع بدورها لحصار قاس منذ عامين ونصف العام. وخلال اجتماع غلبت عليه لغة التهديد والوعيد، جمع وفد من المدينة وآخر من النظام برئاسة ضابط أمن الفرقة الرابعة، العميد غسان بلال، لبحث "مصير المدينة". بدأ الاجتماع مساء أمس الأول، الثلاثاء، وانتهى فجر أمس، الأربعاء، وتم خلاله إبلاغ وفد المدينة بشروط النظام لتجنب اجتياح مدينتهم.





وقال عضو لجنة التفاوض للمدينة، الدكتور علي خليفة، لـ"العربي الجديد"، إن الخيارات أمامهم كانت محدودة، "خيّرنا وفد النظام، بحضور الوسيط الروسي، ما بين التسوية الشاملة أو مواجهة مصير مظلم"، مشيراً إلى أنه تم التوافق على تسليم السلاح و"تسوية أوضاع" المقاتلين، ومن يرفض ذلك، عليه المغادرة مع سلاحه الفردي إلى إدلب أو حلب. وأضاف أنه تم الاتفاق أيضاً على تشكيل جهة أمنية داخل المدينة (شرطة) بالتنسيق بين الفرقة الرابعة ولجنة من المدينة، على أن يتم اختيار هيئة من أصحاب السيرة الحسنة لقيادة وإدارة هذا الجهاز الأمني المحلي. ويضاف إلى ذلك، تشكيل لجنة لمتابعة موضوع المنشقين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية، وفتح مكتب لتسوية أوضاع المسلحين. وقال إنه لن يسمح بدخول أي دورية لأجهزة الأمن إلى المدينة من دون علم الفرقة الرابعة، كما سيتم دخول كل مؤسسات الدولة للمدينة، موضحاً أن العمل بالاتفاق سيبدأ بعد ثلاثة أيام.

من جهته، قال عضو المجلس المحلي لمدينة المعضمية أبو كنان الدمشقي، لـ"العربي الجديد"، إن الاجتماع المذكور الذي استمر أربع ساعات جرى في أجواء من التهديد والوعيد، إذ كانت بنوده معدة مسبقاً، ولم يكن لدى وفد النظام استعداد لمناقشتها، واقتصر الحديث على آليات تطبيقها فقط. وأضاف الدمشقي أن العميد غسان بلال لم يكف خلال الاجتماع عن التهديد قائلاً "نحن من أخرجنا مسلحي داريا بالصرماية ونحن من فصل بينكم وبين داريا بالصرماية، وسيتم تنفيذ بنود الاتفاق بعد ترحيل مسلحي داريا بـ72 ساعة ولا مجال لاجتماع أو كلام آخر، أو تعتبر المعضمية منطقة حرب ويكون الفصل للسلاح والموت والنار".

وأوضح أن الاتفاق تضمن إخلاء أبناء داريا المقيمين في المعضمية ممن يرفضون تسوية أوضاعهم، وإعداد قوائم بأبناء مدينة معضمية الشام غير الراغبين بتسوية أوضاعهم بغية ترحيلهم إلى الشمال السوري، إضافة إلى تسليم السلاح كاملاً وعلى مراحل. ولفت إلى أن أهالي المدينة لا يثقون بالنظام وجيشه، وهم يخشون من تعرضهم للانتقام والملاحقة في حال دخل جيش النظام إلى المدينة، خصوصاً مع عدم وجود ضمانات من أي جهة دولية لمثل هذا الاتفاق الذي تم مباشرة بين ممثلي المدينة والنظام. ورأى الدمشقي أن النظام يتوجه الآن إلى المعضمية، لكن هدفه الحقيقي هو مخيم ومنطقة خان الشيح المجاورة، إذ يحشد قوات كبيرة لاجتياح تلك المنطقة، ويريد أولاً تأمين وجوده في المعضمية قبل الانطلاق نحو خان الشيح.

ويخضع مخيم خان الشيح الذي كان يقطنه اللاجئون الفلسطينيون لسيطرة المعارضة السورية مع المناطق المحيطة به، ويتعرض بانتظام لقصف وغارات من جانب مدفعية وطيران النظام السوري والطيران الروسي. ويثير الاستهداف المُبالغ به للمخيم، المحدود المساحة والخالي من الوجود المسلح، إذ تنتشر الفصائل المعارضة على أطرافه، وما تسبب فيه من دمار هائل لمنازله وبنيته التحتية، تساؤلات حول الهدف الحقيقي من القصف. وقال ناشطون إنه قد يكون تفريغ المخيم من سكانه وهدمه نهائياً، في إطار خطط لإنهاء الوجود الفلسطيني في سورية وإحلال مجموعات أخرى مكانه تساند النظام على أساس طائفي. كما تعرضت مخيمات أخرى في محيط دمشق لتدمير ممنهج، إذ تم تهجير سكانها الذين عرف معظمهم طريقه إلى خارج الحدود ليستقروا في أوروبا وأكبرها مخيم اليرموك، إضافة إلى مخيمَي السبينة والسيدة زينب.

القلمون والمزة
ومن المناطق التي تحظى باهتمام خاص لدى النظام وحزب الله منطقة القلمون الواقعة بين العاصمة دمشق والحدود اللبنانية، إذ تتم بشكل منتظم محاصرة وتهجير سكانها بغية تأمين التواصل بين مواقع حزب الله في لبنان ودمشق. في هذا الإطار، جاء اتفاق "الزبداني ـ كفريا والفوعة" الذي قضى بترحيل جزء من سكان المدينة إلى إدلب، فيما يتواصل حصار بلدة مضايا المجاورة بهدف التضييق على أهلها ودفعهم إلى الرحيل، أو توقيع اتفاق مشابه لما جرى في الزبداني وداريا. وتقصف قوات النظام وعناصر حزب الله مدينة الزبداني المحاصرة بشكل شبه يومي بالإضافة إلى حرق المزيد من الأراضي في سهل الزبداني ومضايا، بينما تستهدف الأخيرة المحاصرة بالقنص بهدف دفع أهلها للرحيل.





وقال ناشطون إن قوات النظام أجبرت عشرات العائلات النازحة إلى كل من بلودان، والمعمورة، والإنشاءات، وكروم مضايا، وجميعها خاضعة لسيطرة قوات النظام، على المغادرة إلى بلدة مضايا القريبة والمحاصرة من قبل النظام والمليشيات الموالية له. وتعاني بلدتا بقين ومضايا من تفشي مرض التهاب الكبد الوبائي بسبب سوء التغذية، وسُجلت خمس حالات وفاة لرضّع بسبب سوء التغذية وانعدام مادة الحليب. كما قامت عناصر حزب الله بالتعاون مع قوات النظام بتفجير منازل المدنيين في قرية هريرة الواقعة في وادي بردى خلال السيطرة عليها في يوليو/ تموز الماضي، وكانت أنذرتهم بضرورة الرحيل، إذ تم إجبار 400 عائلة على الرحيل عن البلدة.

أما في منطقة المزة بدمشق، فصدرت، أخيراً، عن محافظة دمشق إنذارات لأهالي منطقة مزة بساتين، الواقعة خلف السفارة الإيرانية، بوجوب إخلاء منازلهم وتسليمها لقوات النظام خلال شهرين. وبعد انتهاء المهلة، بدأت المرحلة الأولى من الهدم لتنفيذ ما سمي بمشروع "أبراج" الذي تموله إيران ولا يتضمن تعويضات تذكر للأهالي. وقال ناشطون إن سلطات النظام استخدمت أسلوب التهديد والابتزاز لإجبار الأهالي على التقيد بالقرار، إذ يتم إبلاغهم بما يصدر عن المحافظة بواسطة عناصر الأمن والمخابرات بغية تخويفهم وإرغامهم على تسليم بيوتهم. ولا يقتصر هذا التنظيم على حي مزة بساتين بل يشمل في مرحلته الثانية جنوب داريا، والقدم، والعسالي، ونهر عيشة، وبساتين القنوات، وهو ما اعتبر الناشطون أنه يشير إلى خطة لإحداث تغيير ديمغرافي واضح داخل العاصمة دمشق وما حولها.

يضاف لما سبق، تتسبب حملات الاعتقال التي نشطت أخيراً في العاصمة دمشق بهدف ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية، في هجرة كثير من الشباب إلى الخارج. وأصدر النظام، أخيراً، قوائم جديدة تحمل أسماء 46 ألف شاب من دمشق وريفها لإلحاقهم بقوات النظام عبر الخدمتين الإلزامية والاحتياطية. وبحسب شبكة "العاصمة نيوز" التي يديرها ناشطون من العاصمة دمشق، فإن هذه القائمة صدرت خلال النصف الأول من أغسطس/ آب الماضي، وشملت مواليد عام 1978 الذين قاربوا الأربعين من العمر. وبهذه القوائم الجديدة، يكون النظام قد أصدر مذكرات سحب لأكثر من 130 ألف شخص منذ مطلع العام الحالي. وتؤدي هذه الحملات إلى دفع معظم الشبان المطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية إلى الهجرة، ما جعل العاصمة خالية تقريباً من هذه الفئة، وهو ما يضعه ناشطون في إطار سياسة النظام لإفراغ المدينة من سكانها.



المساهمون