لكن مجرد الإعلان عن الفيلم ولّد تخوفات وتساؤلات حول ما سيثيره من نقاشات حول حرية التعبير والرأي والإبداع من جهة وحفظ المعتقدات والمقدسات من جهة ثانية. من جهة أخرى، قد يضع الفيلم العديد من الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية خصوصاً في اختبار عسير باعتبارها من المصادقين على دستور 2014 الضامن لحق الرأي والتعبير والإبداع.
ويبدو أن الرد السريع من قبل وزارة الثقافة جاء على خلفية انطلاق موجة من الانتقادات وردود الأفعال الرافضة لعرضه. فالفيلم الإيراني الجديد سيُعيد حتماً إلى ذاكرة التونسيين الأحداث والتظاهرات والاحتجاجات العنيفة التي رافقت عرض قناة "نسمة" الخاصة للفيلم الكارتوني الإيراني "برسيبوليس" المدبلج بالعامية التونسية عام 2011 فترة الاستعدادات لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي.
جهات سياسية عدّة اعتبرت أنّ بث القناة لذلك الفيلم الكرتوني في ذلك الظرف السياسي الحساس الذي مرت به البلاد التونسية، قبل أسابيع على موعد الاستحقاق الانتخابي، كان يهدف إلى إثارة النعرات الدينية والطائفية واستفزاز التيارات الإسلامية في البلاد. وهو ما جاء في موقف حركة النهضة التي عبّرت عن صدمتها معلنة إدانتها للاعتداء على عقائد الناس ومقدساتهم، داعية إلى ضرورة التمييز بين حق التعبير والتفكير والإبداع وبين التطاول على العقائد والمقدّسات. ونبّهت إلى أنّ استفزاز الناس أو إثارة قضايا جانبية من شأنه أن يهدّد السلم الأهلي ووحدة الشعب وتجانسه التاريخي، كما يهدّد المسار السياسي الذي تنتظره كلّ الفئات لتحقيق أهداف الثورة.
التخوفات والنقاشات ذاتها تدور حالياً بتونس، إذ سارعت العديد من وسائل الإعلام إلى تناول خبر عرض الفيلم الإيراني من عدمه، ويبدو أنه سيسيل الكثير من الحبر وسيُواجه بدوره ردود فعل رافضة من جهة وداعمة من جهة أخرى. وتساءل كثيرون عن مواقف الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية، وغيرها إزاء هذه المسائل الحساسة بالنسبة الى التونسيين، خصوصاً في ظلّ الأوضاع السياسية الحالية المختلفة عن الوضع في الأشهر الأولى من الثورة.
وتدخل حسابات الربح والخسارة الانتخابية في اتخاذ مواقف حول مثل هذه المسائل، إذ يتم عادة تبادل التهم إما بمعاداة حرية التعبير، أو بالتعدي على مشاعر التونسيين وثوابتهم. وشهدت انتخابات 2014 سباقاً واضحاً بين الشخصيات المترشحة للرئاسة، من اليمين واليسار، بغاية دفع هذه التهم وتفنيدها، وتفادي الوقوع تحت ضغط هذه المعادلة الصعبة. لذلك تأخرت ردود الفعل الحزبية هذه المرة، ريثما يتم تجاوز الفيلم بمنعه إدارياً. وجاءت أولى الردود السياسية عن حزب تيار المحبة الذي أعلن عن نيته تنظيم وقفة احتجاجية يوم 21 سبتمبر/أيلول الحالي أمام قاعة السينما التي ستعرض الفيلم.
وأكد الحزب، في بيان للرأي العام، صدر يوم الثلاثاء الماضي، أنه لم تتم مراعاة الجانب الفقهي في الموضوع واعتبار الانعكاسات الخطيرة التي يمكن أن تتولد إثر عرض هذا الفيلم، مطالباً مفتي الجمهورية بإصدار بيان يمنع عرضه في أي فضاء مهما كان نوعه. وذكّر الحزب حكومة يوسف الشاهد والرأي العام أن الحزب "لا يتخذ مواقفه من منطلقات طائفية أو من عداوة مبدئية للمسلمين الشيعة أو إنكاراً لحقهم في اختيار مذهبهم، بل لأسباب تتعلق بالأمن القومي لتونس"، قائلاً "أخشى على وحدة تونس الروحية والسياسية".
ولم تبرز بعد أي ردود فعل من بقية الأحزاب الأخرى سواء كانت الممثلة في البرلمان التونسي أم خارجه، وقد تكون تأكيدات وزارة الثقافة عدم منحها تأشيرة العرض وراء عدم التصريح عن مواقفها أو إصدار أي بيان في هذا الشأن. في هذا الصدد، قال القيادي في حركة النهضة عبد اللطيف المكي لـ"العربي الجديد" إنّه لا يمكنه "الإفصاح عن أي موقف أو عن رأي بما في ذلك رأيي الشخصي عن الفيلم، إذ لا أعلم أي تفاصيل عنه بما يسمح بتصنيفه إما على قاعدة مبدأ الحريات العامة والشاملة أم أنه يتناول قضايا أخرى، وبالتالي أتحفظ عن إبداء أي موقف أو رأي لعدم إلمامي بتفاصيل القضية".
تمّ إنتاج الفيلم عام 2015، وهو من إخراج الإيراني مجيد مجيدي ويتحدث عن النبي محمد منذ ولادته مروراً بطفولته. كما يتضمن مشاهد لوفاة والدة النبي بقرية الأبواء وفترة طفولته بقرية السعدية، وتنتهي أحداث الفيلم عند رحلة النبي محمد إلى الشام. وأعلن مخرج الفيلم منذ وقت قريب عن استعداداته لجزء ثانٍ للفيلم يستكمل فيه حياته.
وفيما قالت وزارة الثقافة إنها لم تمنح رخصة عرض الفيلم، تحدثت أخبار عن إمكانية تقديمه للصحافيين والسينمائيين في عرض خاص يوم 19 من هذا الشهر، كما جرت العادة في تونس مع بقية الأفلام. لكن يبدو أن هذا الموعد، إن كتب له أن يكون، سيتزامن مع ردود فعل واحتجاجات رافضة للفيلم.