ما حدث، مساء اليوم السبت، في العاصمة الدانماركية كوبنهاغن، بدا للوهلة الأولى هجمة أخرى من هجمات اعتادت على صداها مناطق الضواحي في حرب عصابات متبادلة، لكن الاستخلاص الإعلامي والسياسي السريعين ذهب نحو ربط الهجوم، الذي ذهب ضحيته رجل أربعيني وجرح ثلاثة من رجال الشرطة، اثنان منهما من جهاز الاستخبارات، بـ"التطرف الإسلامي".
وسرعان ما كشف النقاب عن أن هجوم كوبنهاغن في منطقة استوربرو تزامن مع ندوة للرسام السويدي، لارس فيكس، الذي ساهم في قضية كاريكاتورات تناولت النبي محمد (ص)، حضرها أيضاً السفير الفرنسي في الدانمارك.
وأحصى شهود عيان 30 طلقة، بحسب ما نقل التلفزيون الدانماركي، في المنطقة القريبة من مكان عقد الندوة المتعلقة بحرية التعبير، وقالت شرطة كوبنهاغن بداية إنها تلاحق سيارة بولو، وجدتها لاحقاً مركونة في منطقة غير بعيدة، ثم توالت بيانات الشرطة عن أنها تلاحق "مشتبهين".
وربطت مصادر أمنية دانماركية بين الطلقات التي اخترقت زجاج المبنى الذي كانت تدور فيه الندوة المسائية و"محاولة قتل رسام الكاريكاتور السويدي فيكس"، ثم تسرب بأن الاستخبارات، التي تحمي الرسام السويدي بشكل كبير، "أمّنت خروجه فوراً من القاعة"، قبل أن يلقي محاضرته عن "حرية التعبير". وبالرغم من صوت الطلقات وما نتج عنها من إصابات، أصر أحد المحاضرين على إلقاء كلمته.
ولم تخفف الشرطة الدانماركية من حالة التشنج حين طلبت من الجمهور التوقف عن نشر الشائعات وتضخيم الأمور، وفي الوقت نفسه، ذهبت الشرطة إلى الادعاء بأنها تبحث "عن رجل بملامح عربية"، دون أن توضح ما هو المقصود بالملامح العربية، بينما الصورة التي نشرتها للشخص المطلوب غير واضحة تماماً بسبب أن الشاب نصف ملثم.
ولم يتوقف أمر مطاردة "المشبوهين" عند حدود كوبنهاغن، بل توسع ليشمل مشاركة الشرطة الألمانية لمساعدة الدانماركيين بحراسة مشددة للحدود منعاً لأية فرصة هرب نحو ألمانيا. إضافة إلى ذلك، أعلنت السلطات السويدية الأمنية بأن جهاز الاستخبارات السويدي، "سابو"، يشارك أيضاً في مطاردة المشبوهين منعاً لهروبهم عبر السويد.
وفي وقت متأخر من مساء السبت، عادت المصادر الأمنية الدانماركية لتقول: "في الحقيقة لم تعد نظرية وجود شخصين مشتبه بهما موجودة، بل شخص واحد".
وتعتقد السلطات بأن هذا الشخص يرتدي كوفية "لكن بملامح عربية"، وحين سئلت الشرطة: كيف بدت ملامحه عربية إذا كان يرتدي كوفية؟ لا يوجد جواب سوى أن "كل التكهنات تقول بأن الأمر مرتبط بعمل ارهابي"، وهو أيضاً ما أكد عليه جهاز الاستخبارات الدانماركي.
وبدا تخبّط الشرطة الدانماركية حتى وقت متأخر من مساء السبت واضحاً بين "شخصين" و"شخص واحد"، وعرضت صورة لمَن بدا أنه شاب يرتدي قبعة حمراء تغطي نصف وجهه، كالتي يرتديها الشباب في حالة الصقيع، ثم قالت بأن الشخص المطلوب كان يرتدي كوفية، ثم ادعت بأنها تبحث عن شخص بملامح عربية، وكل ذلك لا ينفي أبداً أن يكون الأمر مجرد حادث.
ولم يكن هناك أي استثناء بين السياسيين، وفي مقدمتهم رئيسة وزراء الدانمارك، هيلي تورنينغ شميت، لإدانة ما جرى والدعوة إلى رفع حالة التأهب لدرجة قصوى، حيث قالت شميت: "هذا لا يجب أن يحدث في بلادنا. كل المؤشرات تدل على أنه عمل متعلق بالارهاب".
وتذهب الاستخلاصات منذ اللحظة الأولى إلى ربط العمل بالارهاب استناداً إلى تحذيرات كبيرة منذ أواخر صيف العام الماضي باستهداف الدانمارك ومصالحها نتيجة قرارها المشاركة في التحالف الدولي ضد "داعش" ومشاركة طائراتها بفعالية مع الأميركيين بقصف مناطق التنظيم في العراق والمجاهرة بإرسال مدربين للجيش العراقي.
لكن التحذيرات كانت تصدر أيضاً عن بعض الخبراء وأقطاب معسكر اليسار بأن دعم ميليشيات عراقية طائفية "لا تختلف كثيراً عن (داعش) في ممارساتها، سوف يفتح علينا جبهات عداء كثيرة".
ومنذ هجوم "شارلي إيبدو" والتحذيرات من تغلغل "إسلاميين متشددين بين طالبي اللجوء"، والتحضير لعمليات ضد مصالح النرويج والدانمارك، ذهب بالبعض إلى يقينية بأن هجوم كوبنهاغن ما هو سوى استمرار لـ"سلسلة هجمات (داعشية) هددت بها بشكل واضح".
وربما يتكشف في الساعات المقبلة بأن ما طالبت به السلطات الأمنية مواطنيها بتوخي الدقة قد وقعت في عكسه من خلال ذلك التخبّط المتواصل في تحديد ما أرادت إيصاله عبر بياناتها المتلاحقة والمثيرة للكثير من الأسئلة بدل الاجابة عليها.