فنزويلا ــ مادورو ومحدودية الميثولوجيا الدينية

06 مايو 2014
مادورو يحيي عيد العمال في كراكاس (فرانس برس/GETTY)
+ الخط -
 

قد تعرف الأرجنتين استقراراً، وقد تعتصم البرازيل بحبل الصمت، ريثما تنتهي بطولة كأس العالم لكرة القدم، خلال الشهرين المقبلين. لكن الأمر مختلف في فنزويلا، إذ لا يُمكن لها أن تحيا من دون بركان ما. قدرها في أميركا الجنوبية، أن تكون جغرافيتها السياسية أشبه بحديقة خلفية بالنسبة الى الولايات المتحدة، ومعبراً إلزامياً بين المحيط الأطلسي وأميركا الوسطى والكاراييب، مع كل ما يتضمنّه ذلك من عبور للتاريخ، من سيمون بوليفار الى هوغو تشافيز.

لم يلمع اسم فنزويلا كثيراً في الكتب القديمة والمعاصرة؛ ففي قارة تتسيّدها ثنائية أرجنتينية ــ برازيلية، من الطبيعي أن تكون بلاد مثلها منكفئة. لكن في الومضات التي برزت فيها، لا يُمكن نكران دور بوليفار، "محرّر أميركا الجنوبية من النير الاسباني"، والذي بات ملهماً لفنزويلا مع الراحل تشافيز. لا يُمكن نسيان دور النفط، بعدما باتت كاراكاس الخزان الخارجي الأقرب الى الولايات المتحدة. وبموقعها الجيوبوليتيكي، ومواردها النفطية (ثالث دولة منتجة للنفط ورابع دولة مصدرة له)، أضحت البلاد لقمة سائغة لحكامها، وللخارج. بشكل أدقّ، بدت وكأنها نسخة عن كوبا قبل ثورة 1959، مع استغلال الأراضي الزراعية، ورفض تقاسم الثروة مع المزارعين.

لكن فنزويلا لم تتغيّر في أيام تشافيز، بالصورة التي حاول تظهيرها. فالانقلاب الفاشل في 2002، كان نكسة هائلة للثورة البوليفارية، التي أعلنها العسكري الثائر. فعملية الاصلاح جُوبهت بردود فعل سلبية من أصحاب الرساميل. كان تشافيز يريد التغيير، لكن تطّلعه الدائم الى الخارج، كالوحدة الجغرافية مع بلدان أميركا الجنوبية، ومواجهة الولايات المتحدة في كل مكان، عرقل المسيرة الداخلية.

وصل اليأس في البلاد الى درجة افتقادها لأوراق المراحيض، وسعت الى استيراد 39 مليون لفة منها، فضلاً عن افتقاد أسواقها للسلع الرئيسية مثل زيت الطهي والسكر والحليب.

حالياً، عادت البلاد الى ما كانت عليه قبل تشافيز، فخليفته نيكولاس مادورو، لم يجد غير الدين الممزوج بـ"لاهوت التحرير"، كي يواجه خصومه في الداخل والخارج، علماً أن التاريخ ترك أمثلة كثيرة عن أنه في اللحظة التي يبدأ فيها زعيم ما في استخدام خطابات مزدانة بتعابير دينية ممزوجة مع الشعبوية، تبدأ نهاية العهد الحاكم. وفي حالة فنزويلا، لا تشفع بوليفارية ضائعة أو غيفارية حالمة لمادورو.

وعلى الرغم من أن صدى خطوط الغاز الروسية التي تمرّ في أوكرانيا، أقوى عالمياً من سقوط 50 قتيلاً ومئات الجرحى في اشتباكات بين المعارضين لمادورو والموالين له، إلا أن عدم تسليط الضوء إعلامياً على "الحروب الصغيرة" اليومية في شوارع كراكاس وأخواتها، لا يعني أن فنزويلا بخير. لم تعد كاراكاس كما كانت قبل وفاة تشافيز. حاول مادورو امتصاص الصدمة. طلب مساعدة الفاتيكان، الذي اعتاد التدخّل في القارة الأميركية الجنوبية. لم يكتفِ مادورو بذلك، بل عمدت حكومته الى رفع الحدّ الأدنى للأجور بنسبة 30 في المئة، بالتالي فقد أصبح الرجل نسخة عن تشافيز، من ناحية السعي للاصلاح الداخلي، من دون إجراء دراسة واقعية، تسمح بالحفاظ على التوازن الاقتصادي، ووقف التضخّم، وهو ما لن يحصل بالتمنّي، كما ذكر مادورو خلال اعلانه قراره.

الآن، لا يُمكن لفنزويلا الخروج من أزمتها، ما لم تتفق مع الولايات المتحدة أولاً، الشريك الأساسي لها في التصدير (39.3 في المئة)، وفي الاستيراد (31.2 في المئة). التأثير الأميركي واضح، فبديله الصيني (تصدّر لها فنزويلا 14.4 في المئة من سلعها، وتستورد منها بنسبة 16.5 في المئة)، لا يزال بعيداً عن فنزويلا، وخصوصاً أنه لا يعمل بسرعة كافية، قياساً على الأميركي، بل يتقدّم بثبات لكن برويّة في الأسواق العالمية، بينما ترغب كاراكاس بحلول سريعة وبكبسة زرّ. ومع أن فنزويلا حاولت الاعتماد على الذهب لدعم اقتصادها، في مرحلة معينة، غير أن الخطوة لم تجدِ نفعاً. كما أدركت خطورة التأميم، لذللك سعت الى تحويل أنابيب النفط الى الجنوب، تحديداً نحو الأسواق الناشئة في البرازيل والأرجنتين، ضمن خطة "التكامل الاقتصادي". حلول لم تُبصر النور، نظراً لطبيعة أميركا الجنوبية التي لم تعهد مثل هذا التطوّر المتسارع، مع استنادها إلى الزراعات والخدمات، بالدرجة الأولى، بدلاً من الصناعات.

كما أن الاستعانة بدول مناوئة للولايات المتحدة، لا يفيد سوى سياسياً، لا اقتصادياً.

ومع أنّ رحلة مادورو الرئاسية، يُفترض أن تستمر دستورياً حتى العام 2019، غير أنه من المحتمل أيضاً انتهاء عهده قبل ذلك، ما لم يعتمد سياسة تغيير جذرية، تبدأ من اعتناق فكرة "التغيير" التي حاول تشافيز إرساءها، والسماح بتحرّر اقتصادي أكثر ليونة، ووضع حدّ للفساد الذي جعل البلاد أفقر الدول النفطية على الاطلاق.

لقد منع الفساد استخدام أرباح النفط، ولو في تحسين شبكة البنية التحتية السيئة للغاية في البلاد، والتموّن بالمواد الغذائية والخدماتية الأساسية، والقضاء على المخدرات التي لم تُشكّل اقتصاداً موازياً سوى لأباطرتها.

لكن مع مراجعة كل الظروف والمعطيات، يحلو للكثيرين القول، وبثقة، إن مادورو، الذي يحارب خصومه بحوار ديني غريب عجيب، والذي اختلق سيناريو ميثولوجياً لشرح وصول بابا الفاتيكان الحالي، فرنسيس، إلى منصبه، لن يكون قائد التغيير الفنزويلي.