حققت قوات النظام السوري ومليشيات طائفية تساندها، تقدماً ميدانياً على حساب فصائل المعارضة السورية المسلحة، في الأحياء الشرقية المحاصرة من مدينة حلب، وسط حركة نزوح كبرى تشهدها هذه الأحياء. وينذر الوضع بمأساة إنسانية واسعة النطاق، في الوقت الذي تؤكد فيه المعارضة ألا خيار أمامها إلا مقاومة هذه الحملة "البربرية"، مشيرةً إلى أن النظام وحلفاءه بصدد تدمير الأحياء الشرقية وقتل وتهجير سكانها. وأكد الناطق الرسمي باسم تجمع "فاستقم كما أمرت" المعارض، عمار سقار، سقوط حي هنانو بيد قوات النظام، وهو أكبر أحياء شرق حلب. وأشار في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن سيطرة هذه القوات وحلفائها على الحي جاء إثر سلسلة محاولات فاشلة، لافتاً إلى أن التقدم جاء بعد "إحراق المنطقة" بقصف مكثف من الطيران الحربي والمدفعية. وذكر أن قوات النظام تحاول التقدم أيضاً على محور جبهة عزيزة جنوب حلب، لكن فصائل المعارضة تصدت لها وأوقعت في صفوفها خسائر فادحة، وفق وصفه. وشدد على أن خيار المعارضة الوحيد "هو التصدي" لحملة قوات النظام والمليشيات، التي وصفها بـ"البربرية"، مستغرباً الصمت الدولي تجاه الإبادة الجماعية التي تتعرض لها أحياء شرق حلب. وأكد أن "حملة القصف المكثف تزداد على الأحياء السكنية، وأغلب الضحايا من الأطفال والنساء".
وقال الناطق باسم "حركة نور الدين الزنكي"، النقيب عبد السلام عبد الرزاق، إن معارك وصفها بـ"العنيفة" تدور على جبهتي الشيخ سعيد، وعزيزة جنوب حلب، مؤكداً أن قوات المعارضة تتصدى لها "بكل بسالة"، وموضحاً أن قوات النظام لم تحقق أي تقدم في الجبهتين. وأكد في المقابل، أن غارات ومدفعية النظام استهدفت الأحياء القريبة من حي هنانو من أجل تهجير المدنيين.
وكانت قوات المعارضة قد سيطرت على الأحياء الشرقية من حلب، إبان الاندفاعة الكبرى للمعارضة في عموم سورية منتصف عام 2012، والتي كادت أن تطيح بنظام بشار الأسد. وتتعرض هذه الأحياء، منذ ذلك الحين، لحملات متلاحقة من القصف الجوي العنيف، أبرزها حملة البراميل أواخر سنة 2013، والتي أدت إلى نزوح عدد كبير من سكانها، وتدمير أغلب مرافقها الخدمية. كما يعد الهجوم الراهن لقوات النظام، أول تهديد جدي لهذه الأحياء، التي تعد من أهم المناطق التي لا تزال بيد المعارضة في سورية.
وأتاحت سيطرة قوات النظام على حي هنانو، التقدم نحو أحياء ملاصقة له، في مسعى للإطباق على كامل مدينة حلب، ثاني أهم المدن السورية، وأكبرها في الشمال السوري. ويريد النظام حسم جانب مهم واستراتيجي في الصراع على سورية، الذي اتخذ أبعاداً معقدة بعد تدخل أطراف إقليمية ودولية، تتسابق لتعزيز مكاسب لها في مناطق نفوذها داخل الجغرافيا السورية. وفي هذا الصدد، نقلت وكالة "رويترز" عن جيش النظام السوري أمس الأحد، إعلانه أنه وحلفاءه استعادوا "السيطرة على حي جبل بدرو بحلب" القريب من حي هنانو.
ويؤكد الهجوم الكبير الذي تشنه قوات النظام عدم جدية تفاهمات إقليمية ودولية حيال الوضع في حلب. كما يعد نسفاً لكل الجهود الأممية التي تُبذل من أجل تخفيف مأساة المدنيين، وتجنيبهم ويلات القصف الجوي والمدفعي من قبل قوات النظام وحلفائها. وبات من الواضح أن النظام وحلفاءه يحاولون استغلال مرحلة "عدم اليقين" التي تسبق استلام الإدارة الأميركية لمهامها في يناير/كانون الثاني المقبل، من أجل خلق واقع عسكري جديد، يعزز فرص إعادة إنتاج النظام بقيادة بشار الأسد، في أي تسوية قد يعمل الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، على نسج خيوطها.
واعتمد النظام وحلفاؤه سياسة الكثافة النارية غير المسبوقة خلال نحو أسبوعين لإنهاك قوات المعارضة، وخنق حاضنتها الاجتماعية، وتمهيد الطريق أمام قواته من أجل البدء بهجوم بري من شأنه زعزعة صفوف المعارضة السورية وحصارها في منطقة جغرافية ضيقة. ويريد النظام بالتالي دفع المعارضة للموافقة على الخروج من شرق حلب، في استنساخ لـ"مصالحات" عقدت مع المعارضة في حمص ومحيط دمشق، أفضت إلى خروج المقاتلين وعائلاتهم إلى محافظة إدلب شمال غرب سورية. ورفضت المعارضة دعوات من أجل الخروج من شرق حلب، معلنة تمسكها بالبقاء بالمدينة، وعدم تسليمها لمليشيات مدعومة من إيران، تقاتل تحت عباءات طائفية واضحة، وفي مقدمتها حركة "النجباء" العراقية.
في هذا الإطار، أشار المحلل العسكري، العقيد الطيار مصطفى بكور، إلى أنه لم يكن بإمكان قوات النظام التقدم في شرق حلب، لولا اتباعها "سياسة الأرض المحروقة وسياسة الضغط على المدنيين بالقصف والتجويع، وتدمير المرافق الخدمية، وخاصة المستشفيات". وأشار إلى أن انشغال كثير من فصائل المعارضة السورية في عمليات "درع الفرات" لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في شمال شرق حلب، أسهم إلى حد كبير في تسهيل مهمة قوات النظام والمليشيات في شرق حلب. واعتبر أنه "لم يتم تأمين شرق حلب بشكل كافٍ"، لافتاً إلى أن الخلافات التي ظهرت في الأسابيع الأخيرة بين عدد من الفصائل المدافعة عن حلب "أضعفت جبهة حلب، وأوهنت من عزم المحاصرين".
ودعا بكور فصائل المعارضة إلى استعادة زمام المبادرة من خلال الهجوم على بعض المناطق الأضعف من حلب، وذلك بهدف "إرباك قوات النظام والمليشيات الطائفية المساندة لها". وبيّن أن أمام المعارضة خياراً آخر، لا يقل أهمية، وهو يتمثل في "إعادة فتح معركة حماة والساحل بقوة". وأضاف أن "هذا الأمر سيدفع النظام والمليشيات الطائفية متعددة الجنسيات لإعادة حساباتها والتوجه لحماية المناطق الساحلية وحماة، وبالتالي ستتوقف عملية الهجوم على حلب". ورأى أن هذه الفكرة "نجحت أكثر من مرة" خلال محاولات سابقة من قوات النظام لاقتحام أحياء حلب الشرقية.
وبدأت قوات النظام ومليشيات طائفية موالية لها، هجوماً على الأحياء الشرقية في حلب، من منطقة اللواء 80، الواقع إلى الشرق من مدينة حلب بنحو 15 كيلومتراً، وبالقرب من مطار حلب الدولي، ومطار النيرب العسكري. وينتظر نحو 300 ألف مدني محاصرين في شرق حلب، مصيراً مجهولاً، في ظل حملة نزوح كبرى باتجاه أحياء أخرى، واقعة تحت سيطرة المعارضة، وأكثر بعداً من جبهات القتال المحتدم.
وفي هذا الصدد، أكد مدير الطبابة الشرعية في شرق حلب، ويدعى أبو جعفر، أن الوضع الإنساني "كارثي"، مشيراً إلى أن حركة نزوح كبرى بدأت من الأحياء المستهدفة بالطيران والمدفعية، ومناشداً خلال حديث لـ"العربي الجديد" الجهات الدولية، للتدخل الفوري من أجل إيقاف "المذبحة" التي يرتكبها النظام السوري في حلب.