ويوم السبت الماضي، استقالت كريستين شوكروفت، وهي رئيسة "فض النزاعات" في حزب العمال، من منصبها، بعد الانتقادات اللاذعة التي وجهت إليها بسبب دفاعها عن ألان بول، المستشار في الحزب، والذي كان قد شارك مقالاً على وسائل التواصل الاجتماعي ينفي حدوث المحرقة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية.
وسرعان ما تفاقمت الأزمة بعدما نشرت صحيفة "صنداي تايمز" يوم الأحد الماضي، مقالاً تضمّن تفاصيل عن مجموعات معادية لليهود على موقع "فيسبوك"، يصل عدد أعضائها إلى 400 ألف شخص، بينهم أعضاء من طواقم مكاتب كل من كوربين، ووزير المالية في حكومة الظل العمالية، جون ماكدونيل. واحتوت هذه الصفحات على شعارات تربط اليهود بالنازية، وملأتها اللغة العنصرية.
وتبع ذلك إغلاق كوربن حسابه الخاص على "فيسبوك" مساء يوم الأحد، ربما في سعي لمنع الوصول إلى أي من أنشطته على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعود لسنوات إلى الوراء، قبل أن يتم انتخابه رئيساً للحزب قبل عامين. وأكد الحزب إغلاق الصفحة الخاصة بكوربين، من دون حسابه الرسمي، بعد أن تكاثرت الأخبار عن عضويته في مجموعات تسودها العنصرية ضد اليهود. وتأتي هذه الخطوة في مسعى من الحزب للفصل بين كوربين والمجموعات المؤيدة له على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تضر بسمعته كمرشح لقيادة البلاد.
كذلك، قام كوربين يوم الاثنين بإحياء عيد الفصح اليهودي عبر حضوره حفلاً دينياً أقامته مجموعة "جوداس" اليهودية اليسارية البعيدة عن التيار اليهودي العام في بريطانيا، وهو ما جلب له المزيد من الانتقادات.
إلاّ أن ردة فعل مناصري كوربين خلال الأسبوعين الماضيين على هذه الأزمة، كان باتهام الأصوات المنتقدة لزعيم الحزب، بأنها حملات تشويه لسمعته من قبل اليمين المحافظ، أو التيار اليميني في "حزب العمال"، أو من قبل دولة الاحتلال، بسبب مواقف كوربن الداعمة لفلسطين. لكن التطور الأبرز كان خروج مجموعة "مومينتوم" الداعمة لكوربن، ببيان يوم الاثنين، أقرّت فيه بانتشار معاداة السامية بشكل واسع في جمهور "حزب العمال". واعترفت لجنة التنسيق الوطنية في المجموعة بأن أسباب غضب المجتمع اليهودي في بريطانيا عديدة، وأن "حزب العمال" فشل في التعامل بشكل حاسم وشفاف مع الموضوع.
وتأتي هذه الخطوة، بعد أن خرج كوربين عن صمته، معرباً عن رفضه التام لمعاداة السامية في صفوف الحزب. وقال في لقاء مع القناة الرابعة البريطانية "نحن نتعامل بجدية مع هذه المخاوف الحقيقية... نتحرى كل حالة تصلنا، وفي حال ارتكاب المتهم فعلاً معادياً للسامية بأي شكل، فسنقوم بإيقاف عضويته، وعادة ما يتم فصل من يقومون بذلك من الحزب"، وذلك في إشارة إلى نحو 70 شكوى عن معاداة السامية تم التقدّم بها إلى زعامة الحزب في الفترة الأخيرة.
إلاّ أنّ معاداة السامية ليست بالحدث الجديد في صفوف "حزب العمال"، أو في المجتمعات البريطانية أو الأوروبية بشكل عام، حيث تنتشر الظاهرة في أوروبا الشرقية في دول مثل بولندا وهنغاريا، وتعتبر جزءاً من عقيدة الأحزاب الحاكمة، فلماذا أخذت هذه الأزمة أبعادها الحالية في بريطانيا؟
لا يمكن النفي بداية أن المجموعات المعارضة لكوربين تستغلّ هذه القضية لمهاجمته شخصياً وانتقاد هيمنته على الحزب. كذلك، لا يمكن إنكار أن المجموعات المؤيدة لإسرائيل تستفيد من القضية لتشويه سمعة كوربن، الذي اشتهر بمواقفه المؤيدة للفلسطينيين منذ عقود.
وبالعودة إلى العام الأول الذي تزعّم فيه كوربين الحزب في سبتمبر/أيلول 2015، فقد شهد "العمال" صراعاً مريراً بين الجناح اليساري الشعبوي الذي يقوده كوربين، والجناح الوسطي الذي هيمن على الحزب في العقدين الماضيين. وكان لفشل الجناح الأخير في الانتخابات العامة عام 2015، وسياسات التقشّف التي اتبعتها الحكومة المحافظة، أن فسح المجال أمام التيار المؤيد لكوربن للوصول إلى زعامة الحزب، وخصوصاً في ظلّ وعوده بتطبيق السياسات الاقتصادية اليسارية الأقرب إلى عقيدة "حزب العمال" منها إلى السياسات النيوليبرالية التي هيمنت على بريطانيا منذ عهد مارغريت ثاتشر في ثمانينيات القرن الماضي.
كما أن نجاح كوربين، المنافس على رئاسة الوزراء، في الانتخابات العامة في يونيو/حزيران 2017، في تحقيق أفضل تقدّم للحزب في البرلمان منذ الحرب العالمية الثانية، عزّز من مخاوف حزب المحافظين الحاكم، الذي تعصف فيه النزاعات الداخلية حيال اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست". كذلك، جلب دعم كوربن المستمر للقضية الفلسطينية، ومهاجمته لسلطات الاحتلال الاسرائيلي، غضب اللوبيات الصهيونية المؤيدة لإسرائيل.
وبالتالي، لا شكّ في أنّ هذه الأطراف تتحيّن الفرص لتهاجم كوربين وتشهّر بسمعته بهدف إطاحته، خصوصاً في ظلّ وجود العديد من المنصات الإعلامية المؤيدة لهذه التيارات السياسية المعادية لكوربن.
إلاّ أنّ ذلك لا ينفي انتشار معاداة السامية والعنصرية ضدّ اليهود، في صفوف "حزب العمال". وصعود هذه التهمة إلى الواجهة اليوم، ليس سببه فقط تشويه سمعة كوربن، بل لها أيضاً أسباب تتعلّق بطريقة تعامل الحزب وكوربين مع القضية، إضافة إلى التحولات التي حدثت في الحزب في العامين الأخيرين. فوصول كوربن إلى الصدارة جلب تياراً مهمّشاً من "حزب العمال" وجعل منه الأغلبية، وأصبحت الأفكار التي كانت تدور في هوامش الحزب، أفكاراً تنتشر بين مؤيدي قيادته. وتشمل هذه المعتقدات نظريات المؤامرة التي تصوّر فئات معينة على أنها المتحكمة بالعالم حولها، وأنها السبب وراء تهميشها سابقاً. كما أنّ هذه التيارات تتعلّق بفكرة الزعيم، وتخلق حوله هالة من النقاء تنفي عنه الخطأ، وتعزو أي اتهام ضده إلى الأطراف المتآمرة. وفي هذا المجال، لا تقتصر الأمثلة على كوربين، بل تشمل أميركا ترامب، وروسيا بوتين، وغيرهم من الأمثلة في عالمنا العربي.
كذلك، تنتشر لدى اليسار البريطاني، أفكار هيمنة رأس المال اليهودي على الاقتصاد العالمي، وتمكّنه من التلاعب به، وهو ما عكسته اللوحة الجدارية في شرقي لندن، والتي كانت شرارة الأزمة الحالية. إلاّ أنّ هذا الفكر القادم من جناح اشتراكي، يعكس سوء فهم لطبيعة عمل النظام الرأسمالي، إلى جانب تهميش اجتماعي وجد نافذة للتنفيس عن نفسه في وسائل التواصل الاجتماعي.
وما يزيد الأمر تعقيداً هو عدم قدرة الكثيرين على التمييز بين مناصرة الفلسطينيين ومقاومة الصهيونية ومعاداة اليهود. فبينما الأولى دعم لحقوق الإنسان ومناصرة للحقوق السياسية لشعب مظلوم، والثانية مناهضة لعقيدة مبنية على سياسات فاشية، تعد الأخيرة شكلاً من أشكال العنصرية تناقض العنصرين الأولين، وقد تسببت بمقتل ملايين البشر على مرّ السنين.
وفي النهاية، ينتظر من زعيم "العمال" بذل المزيد من الجهود، وعلى الملأ، لوقف نزعة عنصرية بين صفوف مؤيديه، تعد جزءاً من كراهية الغير. فمحاولة الفصل بين كوربين ومؤيديه، والقول بأن القيادة لا تتحكم بتصرفات مؤيديها، تستوجب من القيادة أن تبرهن ذلك بالأفعال، لأن الأقوال وحدها لا تكفي.